بقلم: د. عودة أبو درويش
عندما وصل الى نفق الدوّار الخامس، كانت قد مرّت أمام عينيه أحداث حياته القصيرة، التي لم تتعدّى خمسة وعشرين سنة ، والده معلّم التاريخ في احدى مدارس مديريات التربية في عمّان، كان قد انتقل من بلدة جنوبيّة يوما ما، مع ابنة عمّه وأمّ أولاده، من أجل أن يصل الى حلم كان كلّ ابناء مدينته الذين هجروها الى العاصمة يتطلّعون اليه، أن يتدّرج في وظيفة على أن تكون في وزارة الداخلية أو الخارجيّة، ثمّ ادارة عامّة ثمّ وزيرا لاحدى الوزارات، لكنّ الاقدار شاءت أن يبقى معلّما يكرر فيها على مسامع الطلبة أحداث لم يقتنع أنّها حدثت يوما ما، فكيف سيقنعهم بها، والدته امرأة فاضلة، راضية قانعة، وربّة بيت مدبّرة، تحمد الله على كلّ شيء.
صمم والده أن يدّرس جميع أبنائه وبناته، تحمّل وزوجته الجوع من أجلهم، وترحّم على الأيام التي كان الطلبة يدرسون فيها في الجامعات مجّانا، مع حصولهم على منحة نقديّة، تخّرج من الجامعة، كان عليه انتظار دوره في التعيين، وعليه ايضا أن يعين أباه، حصل على رخصة قيادة، وعمل على سيّارة صغيرة لتوصيل الطلبات في أحد المطاعم.
أفاق من شروده في منتصف نفق الدوّار الخامس على صوت منبّهات سيّارات سوداء مسرعة، تصدر أصوات عالية، وعلى هذه السيّارات ذات الدفع الرباعي أضواء تحذيرية بالوان مختلفة، ورجال يخرجون أيديهم ملّوحين للسيّارات أن تفسح الطريق لموكبهم، حاول مرتبكا أن يقود سيّارته الصغيرة على يمين الطريق الضيّق، كان على مخرج النفق رجل سير يقف الى جانب درّاجته، أدّى التحيّة للسيّارات الكبيرة المسرعة، وأشّر لسيّارة التوصيل السريع أن تقف، طلب الشرطي بلهجة آمرة رخصة القيادة ورخصة السيّارة، ابتسم بمكر وقال، سأحجز هذه الوثائق، لأنّك أعقت المرور في النفق وكدت أن تتسبب بحادث كبير، عليك مراجعة الادارة لدفع قيمة المخالفة.
كيف هذا، تحدّث الشاب بصوت عال، ليس أنا من أعاق السير، انّها السيّارات المسرعة التي لم تتوّقف عن اطلاق أصوات منبّهاتها العالية، والتي لم تحترم السرعة المقررة داخل النفق، هي ومن فيها يجب أن تحجز رخصهم، وأن يدفعوا قيمة المخالفة، ردّ الشرطي أن فيها، ولا بدّ، رجال مهمّين يذهبون الى اعمال مهمّه، أنّهم يسهرون على خدمة البلد وأبنائها ولا يجب أن نعيقهم عن أعمالهم، او أن نؤخّرهم عن القيام بها، فلولاهم ما كنّا بأمن وامان، وما كنّا نجد وفرة في أكلنا و شربنا، انّهم من لا ينامون حتّى يطمئنّوا على وطننا وعلى أحوال أبنائه، لا بدّ أنّهم من عليّة القوم، أو ربّما تحمل هذه السيّارات وفدا لمستثمرين كبار، أتوا من بلاد بعيدة ليقيموا مشاريع تكلّف نقود كثيرة، لتوفير فرص عمل لك ولأمثالك من الشباب، وربّما لمسؤول كبير ذاهب لافتتاح مؤتمر في أحد الفنادق الفخمة، لإيجاد حلول لمشاكل الفقر والبطالة، نعم أنت المخطئ.
كان على موّظف التوصيل الشاب أن يرجو رجل السير حتّى لا يكتب المخالفة فيضطرّ لدفع قيمتها، وسيتأخّر عن ايصال الطلبات للزبائن، فيخصم عليه صاحب المطعم اجرة يوم، وأنّه ممنون للشرطي الذي بيّن له قيمة هذه السيّارات السوداء المسرعة، وأنّه سيحترمها وسيحترم من فيها ويفسح لهم الطريق ان صادفهم مرّة أخرى، رق قلب الشرطي، وفكّر عقله، الموكب ذهب بمن فيه ولم ينتبهوا لتحيته، والشاب لم يكن مسرعا، أخذ السائق وثائقه، و أقسم في سرّه أن يعود الى بلدة اجداده الجنوبيّة، فهناك لا وفود لمستثمرين، ولا سيّارات مسؤولين فارهة مسرعة، كلّ الناس هناك سواسية.