بقلم: عصمت أرسبي
لو نظرنا إلى الحديقة الخلفية لحياتنا
اليومية في الأمس واليوم ، حيث تكون عادة مجمعا لكل أنواع الخردة وما لا نريد لأحد
أن يراه ، لوجدنا أن الفساد متأصل منذ أمد بعيد وليس حديث الولادة ، ويمكن أن نسميه
فسادا صغيرا يمارسه الصغار من موظفي الدولة والبلديات وبعض المؤسسات العامة ، حتى
صار ثقافة عامة وجزءا من حياتنا اليومية ، ثم تبنى الكبار ممارسته ورعايته فيما
بعد حتى صار مؤسسة ، ويُعزي الباحثون والمتخصصون السبب في فساد الصغار ، لانعدام
العدالة في الوظيفة مما يؤدي إلى الشعور بالظلم وهو المدخل الرئيسي للفساد الصغير
.
فساد الموظف والمدير الصغير يشكل خطرا على
المجتمع برمته ويهدد نسيجه الداخلي ولا أحد يختلف على ذلك ، وهو نذير شؤم ومرض كان
لا بد من وأده في مهده ، من خلال أنظمة وتشريعات تقوي المؤسسات العامة وتُفعِّل
القوانين والأنظمة الداخلية فيها ، وبنفس الوقت تحمي الموظف وتعينه على مجابهة
الظروف المعيشية الصعبة ، فلا يُسمح للفساد أن يتطور ويكبر ، فيصبح حينها خطرا
قوميا يصيب الدولة بكل أركانها ، وهو الأمر الذي نعانيه اليوم نتيجة تبني الكبار
له ورعايته ووضع يدهم على ما هو أكبر وأكبر .
لم يكن الفساد الصغير يوما بوضع اليد على المال
العام بالنهب والسلب ، ولكنه كان عن طريق الرشوة بحدود لا تتجاوز حدود الحاجة أو
بعضه وطبعا من وجهة نظرهم ، ولكنه يبقى الخطر الداهم المدمر لكل القيم المجتمعية ،
وهو عمل من أعمال الشيطان لا يمكن بحال من الأحوال تبريره ، وأما الفساد الكبير
الماحق والحارق للأخضر واليابس والأكثر خطورة على الوطن برمته ، هو الذي يمارسه
علية القوم من مسؤولين كبار ورجال أعمال ، ابتداءً برشوة موظف صغير ثم أكبر منه ثم
أكبر من أجل تيسير أمر صعب أو الاستحواذ على عطاء أو التهرب من جنحة جنائية إلى
غير ذلك ، ثم الاختلاس والتزوير وتحويل أموال وغسيل أموال ، ثم التوزير واعتلاء
المناصب ، وهو الأمر الذي يحدّ من تخفيف الفقر وآثاره وتجفيف ينابيع التنمية ،
ليشكل بالتالي قلب وروح أزمة اقتصادية تبدأ تعصف بالبلاد والعباد ، ثم نبدأ بإيجاد
الحلول لها والخروج من مأزقها فلا نجد سبيلا لذلك .
بكل الأحوال لا يمكننا قياس الفساد بالحجم
والوزن والقيمة ، ولا بالكم والكيف ، ولا ينطوي ذلك أصلا على منطق عقلاني ، فهو إن
بدأ صغيرا وتركناه فلا بد له أن يكبر ، وهذا واقع الأمر حاليا ، وهو نتيجة حتمية
للتجاوز عن الصغار وفسادهم وتركهم وشأنهم ، في وقت كانوا قادرين على محاسبتهم
ومعاقبتهم والحيلولة دون خروجهم عن السيطرة ، ولكنهم اليوم ومهما حاولوا فلن يجدوا
طريق سهلا للقضاء على الفساد المستشري ك السرطان في الدم ، لأن حيتان الفساد صاروا
وحوشا يصعب مواجهتهم ، بل أنهم أهم وأكبر شأنا من كل من يفكر في القضاء عليهم ،
حيث صار الفساد بالنسبة لهم أسلوب حياة لا يمكن الاستغناء عنه مهما كلف الأمر ،
والراسخون في السلطة يعلمون ذلك ..