يعيش الشعب البريطاني حالة من عدم الاستقرار منذ أن ظهرت نتائج الاستفتاء البريطاني حول الخروج من منظومة الاتحاد الأوروبي. تنشغل الحكومة بلا توقف في المحادثات مع الجانب الأوروبي كما يبذل وزراء الحكومة جلّ جهدهم ووقتهم حول بركزيت.
قبل عدة أسابيع تم الكشف عن اتفاقية الخروج المكونة من 585 صفحة، والتي تضمن تفاصيل الخروج من الاتحاد وتغطي جوانب المواطنين، العمال، التجارة، التنقل، الأمن وغيرها. غالبية الواجبات، الأعباء ومتطلبات العمل تقع على بريطانيا.
لتوضيح الخلفية، فقد دعا رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كامرون إلى القيام باستفتاء شعبي حول عضوية بريطانيا في المنظومة، ذلك بعد ضغوط مستمرة من أقصى اليمين في حزبه (المحافظين) وحزب يوكيب (حزب استقلال المملكة المتحدة)، إضافة إلى حركات يمينيّة معروفة بتوجهها العنصري. كاميرون لم يكن متحمسًا للفكرة ولكنه المسؤول عن القيام بها، وقد كان معارضًا للخروج وشارك بحملة دعم البقاء في الاتحاد.
قامت كلتا الحملتين بدعوات، ندوات، تظاهرات ومناظرات لعرض القضية أمام الرأي العام، وركزت حملت "ليف" على 3 قضايا أساسية أرتبها حسب الأهمية بالنسبة لهم: 1) الحد من الهجرة 2) عودة السيادة البريطانية كاملة دون تدخل أوروبي 3) الاقتصاد من ناحيتين: وقف ضخ الأموال للاتحاد الأوروبي وزيادة فرص العمل للبريطانيين.
وعدت حملة "ليف" الشعب بأن الأموال التي تُصرف على منظومة الاتحاد الأوروبي سيتم صرفها على المؤسسات البريطانية مثل خدمة الصحة الوطنية "الإن إتش إس" والمؤسسات الأخرى التي شهدت نقصًا في التمويل الحكومي، بالرغم من أن سياسات التقشف التي قامت بها حكومة المحافظين هي التي أثرت سلبًا عليها. فقد قلصت الحكومة ميزانيات معظم المؤسسات الرئيسية للدولة وشملت الصحة، الشرطة والتعليم. أدى ذلك ولا يزال إلى نقص كبير جدًا في القوى العاملة في "الإن إتش إس" (هناك أكثر من مائة ألف وظيفة شاغرة) وزيادة الوفيات الناتجة عن حالات حرجة وغير حرجة، تخفيض عدد الشرطيين في الشوارع مما زاد في انتشار العمليات الجنائية، وقطع رسوم دعم الطلاب في المدارس والجامعات. أضف إلى ذلك حملات التخويف من المهاجرين وفق تصريحات وسياسات الحكومة والتي زادت من حالات الاعتداءات العنصرية وترك مزيد من القوى العاملة الأجنبية البلاد مع أن بريطانيا بأشد الحاجة إليها، خاصة في المجال الصحي الذي يشكل الأجانب فيه عاملاً مهمًا جدًا.
لم يحضّر أنصار ترك الاتحاد أنفسهم ولم يحضّروا الشعب لتبعات قرارهم، حيث اعتزل أبرز مناصري الحملة نايجل فاراج منصبه بعدما قال إنه قام بـ"تحقيق طموح سياسي". أنصار الحملة من المحافظين تراجعوا عن سباق رئاستي الحزب والوزراء بعد استقالة كاميرون، ووقعت المسؤولية على عاتق تيريزا ماي – وهي المؤيدة للبقاء في الـ"إي يو" أصلاً.
دخلت بريطانيا في دوامة مستمرة حتى الآن كنتيجة: تراجعت قيمة الجنيه الإسترليني، هبوط في مجال العقارات ومجالات عديدة أخرى، تراجع في الاستثمارات، نقل واحتمال نقل مقرات شركات كبرى ومستقبل أسوأ اقتصاديًا حال تركت الدولة المنظومة باتفاق أو بغير اتفاق.
ما زاد من حجم المصيبة هو مضمون ورقة – أو إن شئت كتاب – التفاهم قبل ترك المنظومة، الذي يبقي بريطانيا تحت القانون الأوروبي، لم يمنع مرور المواطنين ويجعلها عمليًا عضوًا بلا تأثير إلى فترة زمنية غير محددة أُشيرَ إليها في الورقة كعام **20. ناهيك عن الـ40 مليار جنيه استرليني التي يجب على بريطانيا دفعها للمنظومة كثمن لتركها.
هناك تصويت متوقع في الحادي عشر من الشهر الجاري في البرلمان البريطاني للموافقة على الاتفاقية والذي على الأرجح سيتم رفضه، كون غالبية المعارضة صوتت للبقاء ووجود نسبة كبيرة من حزب المحافظين تعارضه بحجة أنه لم يرق لطموح الشعب في ترك المنظومة، هذا بعد استقالة ما يقارب الـ20 وزيرًا في الحكومة منذ الاستفتاء. كما أنه يتم التحضير لمناظرة تلفزيونية بين رئيسة الوزراء ماي ورئيس المعارضة من حزب العمال جيريمي كوربين في التاسع من الشهر الجاري.
هناك أصوات تنادي بإعادة الاستفتاء كونه سُوِّق للشعب على أساس غير صحيح بادعاءات كاذبة وأصوات أخرى تنادي بإلغائه تمامًا كونه غير ملزم من ناحية قانونيةـ ولأول مرة ذكرت رئيسة الوزراء أن هناك فعلاً إمكانية لإلغائه إذا تم التصويت ضد الاتفاقية التي تم التوصل إليها مع المنظومة، وإن كانت ملاحظتها تحمل في طياتها رسالة تخويف لأعضاء حزبها المعارضين له.
بركزيت لم ينتج عن دراسة حقيقيّة لوضع معيّن ولم يكن لدى من دعا إليه أي دراية لتبعاته، إنما كان مصدره شعور بالتفوّق تصحبه نزعة عنصرية تحت مسمى "الشعبوية" التي تتوسع دائرة انتشارها في الدول الغربية. لكن من ناحية أخرى، ظهور موجة "الشعبوية" أدّت إلى تقوية الجهات والأصوات المضادة، المنادية بالتسامح، المساواة، التعددية وحقوق الإنسان – فالقضيّة لا تتعلق بالخروج من منظمومة أوروبية فحسب، بل في الطريقة التي يُنظر بها إلى المختلف، شكلاً ومضمونًا.