حسن أبو هنية
لا جدال بأن المنظور الاستشراقي لا يزال يتحكم بمجمل التصورات الغربية المتعلقة بالإسلام والمسلمين وهو منظور يستند لأحد أهم فعاليات التمركز الغربي على الذات حيث شكل الشرق موضوعا لتفكير أفرز جملة من الدراسات والأبحاث والأقوال المختلفة قدمت فيها الإنسان الشرقي المسلم نمطا ملتبسا مفعما بالأساطير والتصورات المغلوطة واتخذ من الشرق الإسلامي ميدانا أنثروبولوجيا وإثنولوجيا مجردا من قيمه وتاريخه ويصور فيها الشرقي المسلم سواء كان عربيا أم تركيا أم فارسيا بصورة نمطية مقولبة مثلى للشخص الشهواني القاسي أو البربري الفظ الذي يتوافر على دين بسيط وبدائي ومتعصب وعدواني وعلى الرغم من وجود بعض الأصوات المناوئة لهذه التوجهات إلا أنها نادرة وتعتبر ناشزة ولم تفلت الأنثروبولوجيا الاستشراقية من عقلية النموذج الأوروبي الأصلح والأفضل سيما إذا تعلق الأمر بالدراسات الإسلامية حيث خضع الإسلام إلى عمليات قولبة ونمذجة، ووضع في قفص الاتهام وتعرض لشتى صنوف الرفض والقدح.
إذا كانت صورة العربي والمسلم عموما في الاستشراق القديم والجديد منمطة بصور مقولبة تدور حول قيم الجهل والتعصب والانغلاق والجمود والشهوانية والبربرية فإن صورة الإرهابي المسلم تصبح مجالا خصبا للاستيهامات والاختزالات والتنميط كحالة عدمية تسكنها قيم الشر والجهل المطلق ومنذ أحداث 11 سبتمبر 2001 الذي شهد بروز تنظيم «القاعدة» وعقب الانتفاضات العربية التي شهدت صعود تنظيم «الدولة الإسلامية» تكاثرت الدراسات والأبحاث المقاربات لمعرفة سر جاذبية الإيديولوجية الجهادية لكنها لم تغادر في معظمها المقاربة الاستشراقية والثقافوية ونظريتها التفسيرية التي تختزل الظاهرة الجهادية المعاصرة بطبيعة الديانة الإسلامية ونصوصها التأسيسية.
لقد جادلنا على مدى سنوات ضد النظرة الاستشراقية التي تتحكم بمجمل المعرفة حول الإسلام عموما والحركات الإسلامية خصوصا وهي نظرة لا تقتصر على المفكرين والباحثين الغربيين بل تجد لها أنصارا في العالم العربي والإسلامي حيث تختزل إشكالية العنف الجهادي بالإسلام ذاته وتأويلاته الأصولية لكن القراءة التكاملية الشمولية للظاهرة الإسلامية والجهادية تضحض القراءات التجزيئية والتفاضلية إذ تشير الدراسات الموثوقة إلى جملة من الأسباب والعلل الموضوعية التي تقع خلف بروز ظاهرة العنف عموما والعنف الإسلامي خصوص ولا تشكل النصوص الدينية الإسلامية الأساسية وتأويلاتها الأصولية سوى أحد العوامل الفاعلة في نشأة وتكوين الإيديولوجية الجهادية التي تستند إلى أسباب وشروط وظروف موضوعية ترتبط بالمسألة السياسية والحالة الاقتصادية والمواضعات الاجتماعية، وطبيعة التحولات العالمية والإقليمية.
في سياق تفهم دوافع الفاعلين وتوجهاتهم كشفت دراسة موثوقة نشرها البنك الدولي في 5 أكتوبر الجاري بعنوان «العدالة الاجتماعية والاقتصادية لمنع التطرف العنيف» عن حجم الخلل والخطأ الذي يتعلق بصورة الإرهابي النمطية فقد توصلت الدراشة إلى أن الأجانب الذين يلتحقون بصفوف تنظيم «الدولة الاسلامية» هم على مستوى تعليمي أعلى من المتوقع وذلك استنادا إلى بيانات داخلية للتنظيم الجهادي جرى تسريبها، وقالت الدراسة أن التنظيم لم يأت بمجنديه الأجانب من بين الفقراء والأقل تعليما بل إن العكس هو الصحيح.
استندت دراسة البنك الدولي التي أعدها مجموعة من الخبراء الى البيانات الشخصية لـ (3803) من عناصر في تنظيم االدولة الإسلامية حصل عليها البنك بعد أن جرى تسريبها من داخل التنظيم الجهادي وتتضمن الببيانات معلومات عن بلد الاقامة والجنسية والمستوى التعليمي والخبرات السابقة في العمل الجهادي والالمام بالشريعة، وقد تمثلت أهم نتائج الدراسة بكسر الصورة النمطية المقولبة لصورة الإرهابي فبحسب معدي الدراسة إن «أحد أهم الاكتشافات هو أن هؤلاء الأشخاص هم أبعد ما يكونون عن الأمية» فغالبية المنضمين الى التنظيم الجهادي خلال الفترة 2013-2014 «يؤكدون أن مستواهم التعليمي هو المرحلة الثانوية وقسم كبير منهم تابعوا دراستهم حتى الجامعة» ويبلغ معدل أعمار المتطوعين في صفوف التنظيم 27,4 سنوات.
أظهرت بيانات الأجانب الذين انضموا لتنظيم الدولة الاسلامية أن 43,3 منهم مستواهم التعليمي هو المرحلة الثانوية و24,5% هو المرحلة الجامعية في حين أن 13,5% فقط يقتصر مستواهم التعليمي على المرحلة الابتدائية وبلغت نسبة الأميين في صفوف التنظيم 1,3% فقط أما النسبة المتبقية من الأجانب الذين انضموا إلى التنظيم وهي (16,3%) فلم يصرحوا عن مستوى تعليمهم، وأشارت الدراسة إلى أن «الأجانب الذين انضموا لتنظيم الدولة الإسلامية والآتين من إفريقيا وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط هم أكثر تعليما بكثير من بقية رفاقهم، كما أن الغالبية العظمى منهم يؤكدون على أنه كان لديهم عمل قبل الانضمام إلى التنظيم».
تشير الدراسة إلى أن أسباب ودوافع انضمام الأجانب للتنظيم «متنوعة» ففي حين يريد البعض مساعدة التنظيم إداريا فإن البعض الآخر انضم رغبة بالموت بينما انضم آخرون رغبة في القتال، وذكرت الدراسة أن «نسبة الراغبين بالقيام بأعمال إدارية وكذلك أيضا نسبة الراغبين بتنفيذ عمليات انتحارية ترتفع مع ارتفاع المستوى التعليمي» وقد خلصت الدراسة إلى القول إن «العوامل الأكثر قوة المرتبطة بانضمام الأجانب إلى داعش ترتبط بنقص الاحتواء – الاقتصادي والاجتماعي والديني – في بلدان الإقامة ولذلك فإن تعزيز مستوى الاحتواء قد لا يخفض مستوى التطرف العنيف فحسب بل قد يحسن أيضا الأداء الاقتصادي لبلدان المنطقة».
لعل الخلاصة المهمة التي توصلت لها دراسة البنك الدولي تساهم في تبديد الصورة الاستشراقية النمطية لظاهرة العنف الجهادية وصورة الجهاديين الأمر الذي يساعد على وضع الخطط والاستراتيجيات في التعامل مع الظاهرة المتنامية في العالم العربي ولطالما أشرنا إلى ذات الخلاصة التي توصل إليها البنك الدولي وكلمة السر في التعامل مع المقاتلين الأجانب وهي إعادة التوجيه والاحتواء والدمج وعدم الاقتصار على مقاربات تموذج الحرب والعدالة الجنائية فقط ذلك أن صعود تنظيم «الدولة الإسلامية» يستند إلى أسباب وعلل موضوعية وفي مقدمتها مسألة الدكتاتورية وغياب الديمقراطية إذ فشلت الدولة القطرية العربية التي جاءت عقب الحقية الكولينيالية في تلبية طموحات شعوبها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، فقد تحولت الأنظمة السياسية إلى نمط من الدكتاتورية والسلطوية وأخفقت في تحقيق التحديث والاستقلال.
أحدى النتائج الهامة لدراسة البنك الدولي الإشارة إلى الأسباب العميقة لظاهرة العنف الجهادي وتتمثل بفشل الدولة القطرية على كافة الأصعدة الحيوية إذ تفشت السياسات السلطوية الدكتاتورية وغاب الحكم الرشيد، حيث نجم عن سوء الحوكمة شعورٌ راسخ بالظلم، وغذّى هذا الشعور القمع والعنف المنهجي الذي تعرّض إليه المواطنون العرب على أيدي حكوماتهم على مدى عقود باعتبارهم خطرا على الأمن الوطني، ولم تكن سياسات الدكتاتورية الاقتصادية أحسن حالا، فهي بطبائعها الريعية الفاسدة، وأنظمتها النيوليبرالية الرثة ساهمت بانهيار الطبقة الوسطى وانعدام الشفافية ودعمت المحسوبية وقضت على المساواة، الأمر الذي أدى إلى انعدام الفرص الاقتصادية وضعف نظم الرعاية الاجتماعية.
عن الرأي