حسن أبو هنية
الخلط بين مصطلحات التطرف والعنف والإرهاب أحد أكثر الأخطاء شيوعا وانتشارا لدى الناس في العالم عموما والعالم العربي خصوصا، وقد ساهم في ترسيخ سوء الفهم والالتباس اختلال جوهري طاول معظم المشتغلين في دراسة ظاهرة الإرهاب على مدى عقود من الزمن، إذ جرى التعامل مع التطرف في الرأي أو «راديكالية الفكر» على أنها مرادف لـ «العنف» و» «لإرهاب»، وفي أحسن الأحوال أعتبر التطرف الفكري مقدمة حتمية للانتقال إلى العنف والوقوع في شبكة الإرهاب، وبهذا جرى التعامل مع مَن لديهم أفكار متطرفة على أنهم إرهابيون محتملون.
توصلت دراسات مختصة حديثة وموثوقة أخيراً حول ظاهرة الإرهاب والتطرف إلى أن ثمة مفارقة مهمة في هذا الشأن تتلخص بالقول: إن غالبية الأفراد من أصحاب الآراء المتطرفة لا يتحولون إلى الإتيان بالفعل الإرهابي، حيث دعا باحثون متخصصون في دراسة الإرهاب بضرورة الفصل بين «تطرف الرأي» و»تطرف الفعل»، وقد تناولت المسألة في عدد خاص دورية علم النفس الأميركية، «أميركان سيكولوجيست»، وهي مجلة مرموقة تصدر عن الجمعية الأميركية لعلم النفس، وتبحث المقالات المنشورة بالعدد في قضايا أساسية وأسئلة شائكة من أمثال: كيف يصبح الأفراد متطرفين؛ آليات التنبؤ بـمَن هو المرشح من بين هؤلاء ليصبح إرهابيًّا، وكيفية التقدم من مرحلة اللاعنف إلى التطرف ثم إلى الإرهاب، وما هو الدور المنوط بالمجتمعات المحلية لمنع الشباب من تبنِّي التطرف العنيف.
في مقالة أعدها الباحثان كلارك مكولي، وصوفيا موسكالينكو، من كلية برين ماور الأميركية، تحت عنوان «فهم التطرف السياسي: نموذج الهرمين»، توصلا فيها إلى صياغة النموذج الهرمي الثنائي المحاور للتفرقة بين التطرف في الرأي والتطرف في الفعل، مدعين أن الخلط بين النسقين يضر ضررًا بالغًا بمعالجة القضية، وقد يؤدي إلى تزايُد وتيرة العنف والإرهاب من جَرَّاء توجيه إجراءات مكافحته في صورة عقاب جماعي لأفراد أو جماعات لمجرد انتمائهم إلى فكر أو عقيدة معينة، ويقترحان أن التشدد الفكري يختلف عن ذلك الذي يقود أصحابه إلى الإتيان بأفعال متطرفة أو إرهابية، فهما ظاهرتان مختلفتان من المنظور النفسي.
نموذج «هرم الرأي» الذي تطرحه المقالة يتألف من أشخاص يتشاركون مستويات متسارعة من الأفكار المتطرفة، ونموذج «هرم الفعل» الذي يتضمن مستويات تتراوح ما بين السلبية إلى النشاط القانوني والعنف السياسي والإرهاب، وتستعرض المقالة بعض أسس التفكير ومعالمه في ظاهرة التطرف السياسي، والتي جاءت نتاج جهود العلماء والمسؤولين الأمنيين بعد أحداث 11 ايلول لتحديد أصول العنف والعمل الإرهابي، إذ اعترفوا بالنقد الموجَّه إلى المفهوم الحالي للتطرف، مقترحين نموذج الهرمين استجابة لهذا النقد.
تقوم أهم ملامح الهرمين على أنه في نموذج هرم تطرف الرأي: أنه في قاعدة هذا الهرم يأتي الأفراد الذين لا يهتمون بقضية سياسية (المحايدون)، ويلي تلك الطبقة طبقة أخرى تضم أولئك الذين يؤمنون بقضية لكنهم لا يبررون العنف، وهؤلاء يُطلَق عليهم (المتعاطفون)، ثم يأتي في الطبقة التالية أولئك الذين يبررون العنف دفاعًا عن قضية أو معتقد، أما هرم تطرف الفعل: فيأتي في قاعدة هذا الهرم الأفراد الذين لا يفعلون شيئًا لصالح جماعة سياسية أو قضية، ويُطلَق عليهم (خاملون)، ثم يأتي في الطبقة الأعلى من الهرم أولئك الذين يشاركون في أفعال أو أنشطة قانونية أو سياسية لمناصرة قضية أو جماعة سياسية، ويُطلَق عليهم (النشطاء)، ويليهم في الطبقة الأعلى الأفراد الذين ينخرطون في أعمال غير قانونية من أجل القضية أو الجماعة، ويُطلَق عليهم (الراديكاليون)، وفي قمة الهرم يأتي أولئك الذين يقومون بأعمال غير قانونية تستهدف المدنيين، وهؤلاء يُطلَق عليهم (الإرهابيون).
يذهب كلارك ماكولي إلى أن ما دفعه لتبني نموذج الهرمين المنفصلين (تطرف الرأي/تطرف الفعل) ما أقرت به جُلُّ الدراسات التي تحاول الربط بين التطرف والقيام بأعمال إرهابية، وهو أن مَن يمارسون أعمالًا إرهابية عنيفة يمثلون نسبة ضئيلة جدًّا ممن يتعاطفون مع فكر متطرف أو يتبنونه أو يعتنقونه».
يوضح جون هورجان وهو أحد الباحثين المرموقين في مجال الإرهاب، وأستاذ علم النفس في جامعة ولاية جورجيا طبيعة المعضلة التي أدت إلى الخلط وتشوش المفاهيم بين التطرف والإرهاب، ويكشف عن أحد أسباب الخلط بين الراديكالية في الرأي وراديكالية الفعل أو الارهاب، بالقول: «عندما أصبح من الصعب جدًّا التنبؤ بالإرهاب، تحول البحث تجاه التركيز على التطرف كمرادف للإرهاب، وإذ أنه من السهولة بمكان الكشف عن الأفراد الذين يتم تحويل أفكارهم إلى أفكار متطرفة فقد أضحى مفهوم القضاء على التطرف بديلًا موضوعيًّا لمفهوم استباق الفعل الإرهابي».
قام هورجان بمقابلة عشرات من الإرهابيين السابقين، وتوصل إلى أن سؤال الإرهابي عن دوافعه للقيام بفعله، غالبًا ما تكون الإجابة الصادقة عنه: «لا أدري حقًّا»، وفي مقابلة له مع دورية ذي أتلانتيك، يرى هورجان أن الدوافع للسلوك الإرهابي شديدة التعقيد، لدرجة أن مَن يقومون بالعمل الإرهابي أنفسهم قد لا يدركونها بوضوح في كثير من الأحيان، وأكد أن سؤال «لماذا فعلت» ليس هو السؤال الفعال الذي يمكن أن يصل بنا إلى فهم دوافع الإرهابيين، وأن الأكثر وَقعًا وفاعلية هو أسئلة مثل: متى التحقت بـ»داعش»؟ مثلًا، ماذا كان شعورك وقتها؟ ماذا كنت تفعل في حياتك في ذلك الوقت؟ كيف تم التواصل معك؟ أو كيف تواصلت معهم؟.
يكشف البحث في حول التطرف والإرهاب عن حقيقة لافتة دفعت إلى التفريق بين المصطلحين، وهي أن الكثيرين ممن ينفذون أعمالًا إرهابية لا يعتنقون فكرًا متطرفًا من الأساس، كما تشير العديد من الدراسات، فقد توصلت الأبحاث إلى أن هناك العديد من الديناميات التي تخلق لدى الأشخاص دوافع للقيام بأعمال إرهابية بخلاف الدافع المعتاد الحديث عنه وهو اعتناق فكر متطرف، وبحسب ماكولي: «يجب التركيز على العامل الشعوري النفسي والديناميات المتنوعة التي تخلق دوافع عديدة لدى بعض الأشخاص للانخراط في الارهاب والعنف في كثير من الأحيان دون تبني أجندة فكرية متطرفة أو حتى التعاطف مع فكر متطرف معين»، ذلك أن «من بين هذه الديناميات على سبيل المثال: إحساس الفرد بالظلم، أو إحساس فئة معينة في المجتمع بالظلم، أو الرغبة في الهروب من المشكلات، أو البحث عن مكانة أكبر أو قوة أكبر، أو الارتباط الشعوري (الحب) بأفراد منخرطين في أعمال إرهابية».
يرى ماكولي أن المسافة بين التطرف في الرأي والتطرف في الفعل كبيرة جدًّا، بمعنى أن «قرار القيام بعمل إرهابي يلزمه دوافع مختلفة تمامًا عن دوافع تبنِّي رأي متطرف»، ويشدد على أن «النتائج المترتبة على كلٍّ منهما تختلف اختلافًا كبيرًا»، ومن خلال دراسته لتاريخ تطوُّر دراسات الإرهاب يؤكد ماكولي على أن محاولات الربط بين الانخراط في الارهاب والصحة النفسية للمنخرطين أو كنتيجة للخلل في سلوكهم الاجتماعي «غير مجدية، فنتائج رصد معدلات تلك المعضلات النفسية أو الاجتماعية لدى المنخرطين في أعمال عنف لم تتجاوز المعدلات نفسها التي رُصدت في الأوساط الطبيعية، كما أن نسبة كبيرة منهم لايعانون أصلًا من مثل تلك المشكلات»، ويشير ماكولي إلى أن العديد من المنخرطين في العنف والإرهاب «يقومون بإعمال إرهابية على نحو مفاجئ في فترات قد لا تتجاوز عدة أيام أو أسابيع من تبنِّيهم موقفًا ما من قضية معينة».
خلاصة القول أن التطرف في الرأي والفكر لا يقود بالضرورة إلى العنف والإرهاب، ومع ذلك ترتكز معظم جهود برامج مكافحة الإرهاب في العالم العربي على المسألة الفكرية الإيديولوجية باعتبارها طريقا حتميا نحو العنف والإرهاب، دون التفريق بين تطرف «القول» وتطرف « الفعل»، ويبدو أن ذلك محاولة للتهرب من أسباب أخرى تتعلق بالأسباب السياسية والاقتصادية، أو بسبب الركون إلى مقاربات عفى عليها الزمن.
عن الرأي