حسن أبو هنية
عقب أكثر من ثمانية أشهر على انطلاق معركة تحرير الموصل أعلن رئيس وزراء العراق حيدر العبادي، في 29 يونيو الماضي عن نهاية تنظيم «داعش» الإرهابي، على الرغم من أن التنظيم لايزال يخوض معارك شرسة في بعض الأحياء القديمةـ، وقد جاء إعلان العبادي بعد سيطرة القوات العراقية على مسجد النوري في مدينة الموصل القديمة، الذي أعلن من منبره زعيم التنظيم أبو بكر البغدادي دولة «الخلافة» في أول أيام رمضان عام 2014، وشدد العبادي على أن القوات العراقية ستظل تلاحق التنظيم، حتى آخر عنصر له في البلاد، وقال إن «استعادة جامع النوري، ومنارة الحدباء، وتفجير عناصر تنظيم «داعش» لهما، إعلان بانتهاء دويلة الباطل الداعشية».
على الرغم من هزيمة وطرد تنظيم «الدولة الإسلامية» من مدينة الموصل، إلا أن الإعلان عن نهاية «داعش» في العراق وغيرها من البلدان لا تزال بعيدة وغير ممكنة في الوقت الراهن، ويبدو أن العبادي تسرع في الحديث عن نهاية التنظيم لأسباب تتعلق بالمنافسة السياسية الدخلية، كما تسرع بالإعلان عن نهاية معركة الموصل التي أرادها أن تكون متزامنة مع تواريخ إعلان تنظيم الدولة عن «خلافته»، ومن ذات المكان الذي أعلن منه في جامع النوري، وكان التنظيم قد حرم العبادي من لحظة تاريخية مشهدية بإعلان الانتصار من جامع النوري، حيث عمد التنظيم إلى تفجيره وتسويته بالأرض، لإبراز مشهد كارثي برفع العلم العراقي على الركام والأنقاض، وبهذا يبرز الثمن الفادح للانتصار باعتباره تدميرا لا تحريرا.
الحديث عن نهاية داعش في العراق لا يعدو عن كونه رغبويا، لا يتوفر على مصداقية، وهو مناقض للتصورات الدولية والأمريكية ومراكز البحث الموثوقة وآراء الخبراء، وذلك بسبب عدم فهم طبيعة التنظيم وازدواجيته، حيث يمكن الحديث عن نهاية مشروع التنظيم كدولة تتوافر على هياكل للسلطة والحكم تسيطر مكانيا على مناطق مدنية حضرية رئيسية كالموصل والرقة يستند في عسكريته إلى منظق الحروب النظامية الكلاسيكية ويفرض علي مناطق سيطرته منظومته الحاكمة، بينما سوف يعود التنظيم إلى سيرته الأولى ويحافظ على وجوده كمنظمة تتوافر على إيديولوجبا وهيكل تنظيمي وتمويل يستند بصورة أساسية إلى حرب العصابات وتكتيكات الاستنزاف.
في هذا السياق توقع السفير الأميركي لدى العراق، دوغلاس سيليمان أن يأخذ تنظيم «الدولة الإسلامية» شكلًا آخر في العراق بعد القضاء عليه في الموصل، لخوض معركة «غير تقليدية»، وقال سيليمان في مؤتمر صحافي عقده ببغداد، إن «ما بعد معركة الموصل يبقى هناك عدد من المناطق تحت سيطرة داعش، وأبرزها الحويجة في محافظة كركوك شمالي البلاد، وتلعفر غرب الموصل، والقائم في محافظة الأنبار غربي البلاد»، وأشار إلى أن تحرير تلك المناطق يحتاج لجهود كبيرة من القوات الأمنية العراقية، متوقعا في الوقت ذاته أن «يأخذ داعش شكلًا آخر بالعراق كمنظمة إرهابية تقوم بمعركة غير تقليدية».
تتطابق توقعات السفير الأميركي مع تقديرات الخبراء بشأن تحول «داعش» إلى استراتيجية حرب العصابات التي كان يتبعها قبل سيطرته على أراض في العراق وسورية وإعلان ما سماها بـ»دولة الخلافة» صيف عام 2014، وتعتمد هذه الاستراتيجية على شن هجمات خاطفة عبر مسلحين وعبوات ناسفة وسيارات مفخخة وانتحاريين عبر خلايا التنظيم المتخفية بين المدنيين، فقد طور المجلس العسكري للتنظيم نمطا من الحروب الهجينة، حيث سرعان ما يتكيّف مع التحولات الميدانية وينتقل من نهج اتباع الحروب الكلاسيكية إلى نهج حرب العصابات الذي يعتمد على قوات خفيفة سريعة الحركة ترهق القوات المهاجمة.
بصرف النظر عن قدرة عسكرية تنظيم «الدولة» الذاتية البحتة، فإن قوة التنظيم الحقيقية ترتكز إلى أسباب موضوعية، وفي مقدمتها الشروط والظروف السياسية لعراق ما بعد الاحتلال، والتي أطلقنا عليها مبكرا «الأزمة السنية»، حيث جرى إقصاء وتهميش السنة من العملية السياسية بطرائق عديدة، وبرزت «المسألة الطائفية»، هو ما تتفق معه دراسة حديثة لمعهد دراسات الحرب الأمريكي المرموق، بعنوان «استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية الأساسية القضاء على داعش والقاعدة»، حيث خلص إلى أنه يجب على الرئيس ترمب فتح الأفق وتوسيع وجهة نظر سلفه الضيقة، إذ يجب على الولايات المتحدة أن تتصدى لاستراتيجية السلفيين الجهاديين في الترسخ داخل المجتمع السني وتسليحه، وعليها أن تُساعد في خلق نظام سياسي أمني جديد يُدافع عنه المجتمع السني العربي ضد الجهاديين، وإذا لم يحدث ذلك فإن أي نجاح في ساحة المعركة سيكون مؤقتاً في أحسن الأحوال وسينهار في نهاية الأمر مما سيجبر الولايات المتحدة على التدخل مرة أخرى من أجل منع تنظيم داعش أو القاعدة أو الجماعات التي ستخلفهم من إعادة بناء قواعد صلبة يستطيعون من خلالها تنظيم الهجمات وتنفيذها ضد الولايات المتحدة والغرب.
سوف تشكل هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية من الموصل وطرده من المدينة، مؤشرا لبداية حروب وصراعات بطرائق أخرى، فنهاية معركة الموصل ستبرز أزمة الثقة داخل العراق، والخلافات المركبة والمعقدة بين الفرقاء السنة والشبعة والعرب والكرد، والمواطن والدولة والحكومة والأقاليم المتنازع عليها، فضلا عن بروز المسألة الإقليمية والدولية، وطبيعة الدور الأمريكي والإيراني والتركي، ذلك أن أزمة الثقة هي عنوان عراق ما بعد الاحتلال.
الأزمة السنية ستظهر مع مرور الزمن، حيث يمكن التوصل إلى نوع من التفاهمات بين الحكومة العراقية التي يهيمن عليها الشيعة وتقع تحت النفوذ الإيراني وحكومة إقليم كردستان بتبادل وتقاسم المصالح رغم صعوبة ذلك، وربما تقوم أمريكا بالفصل بين القوات في المناطق المتنازع عليها ومعركة النفوذ، لكن أزمة الثقة الكبرى بين السنة والشيعة يصعب تجاوزها، فبروز الحركات السنية الراديكالية هو نتيجة لعمليات الإقصاء والتهميش والقمع الذي تعرض له السنّة في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وهي السياسات التي ساهمت بقوة بانتقال حركة احتجاج المحافظات ذات الغالبية السنّية من العمل السلمي الذي اتّسمت به في فترة 2012-2013، إلى التمرّد الجهادي العنيف.
عملية إعادة الثقة بين الحكومة العراقية التي يهيمن عليها المكون الشيعي وبين المكون السني تتطلب إجراءات وإصلاحات عملية وحقيقية تتجاوز الاستثمار والتوظيف والتلاعب والوعود بتحقيق شراكة سياسية فعلية دون إقصاء فأجهزة الدولة العراقية العسكرية والمدنية ما بعد الاحتلال تحتكرها مكونات شيعية بصورة شبه كاملة ولا بد من وقف الإقصاء السياسي الذي جاء به قانون اجتثاث البعث ثم قانون المساءلة والعدالة، وتعديل قانون مكافحة الإرهاب وخصوصا مادة المخبر السري الذي أفضى إلى اعتقال آلاف المواطنين السنة دون أدلة، وسُجنوا بموجب القانون دون محاكمة عادلة .
لا يمكن تجاوز صيغة عراق ما بعد الاحتلال وعراق ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية دون تعديلات جوهرية في بنيّة وهيكلية السلطة التي تنظم علاقات بغداد بالمحافظات والجماعات العرقية والمذهبية، فالواقع يشير إلى أن التراب العراقي مقسم بين ثلاثة كيانات فعليا أحدها يقع في مناطق تسيطر عليها الدولة العراقية وتُهيمن عليها الفصائل الشيعية؛ والثانية مناطق تقع تحت سيطرة حكومة إقليم كردستان، ومناطق ثالثة يهيمن عليها تنظيم الدولة الإسلامية، الأمر الذي يتطلب صيغة وعقدا اجتماعيا جديدا ينبني على المواطنة والمساواة والقانون بعيد عن المحاصصات الطائفية والإثنية والعرقية والتدخلات الخارجية وشبكات الفساد والمحسوبية.
نهاية معركة الموصل ستعمل على وضع الأزمة السنية على محك التفجير، نظرا لغياب تصورات سياسية واضحة حول إدارة الموصل والمدن السنية، وعدم وجود خطط عملية وموارد ومخصصات مالية للتعامل مع مسألة إعادة الإعمار وعودة النازحين، وعلى الأرجح لن تستطيع الحكومة العراقية الوفاء بوعودها للمحافظات السنيّة المدمرة وسوف تتفاقم أزمة الثقة الحادة بين المكونات السنية والشيعية، فالمعركة الحقيقية تبدأ مع انتهاء العمليات العسكرية، حبث تبرز مرة أخرى الجدالات والمطالبات دون حلول جذرية لعراق منقسم لا يزال بعيدا عن الحداثة السياسية وغارق في الانقسامات الطائفية والإثنية، وخاضع للهيمنة الإقليمية والدولية.
تخلص دراسة معهد الحرب إلى القول أن تنظيم الدولة الإسلامية مستعد لتحمل خسارة هذه المناطق الهامة ونجاتها بعد ذلك، فقد وجهت الولايات المتحدة القوات التي تدعمها نحو مهاجمة اثنين من أقوى خطوط الدفاع لدى العدو، وما زالت داعش تسيطر على الأراضي في كلا الدولتين، والأهم من ذلك أنها ستستمر بالحفاظ على قدرتها في اختراق المجتمعات العربية السنية الواقعة تحت الحصار حتى بعد سقوط أكبر قواعدها ودفاعاتها، وتعمل داعش أيضاً على تصدير رؤيتها لمسألة الخلافة إلى فروع خارجية وتحويل أيديولوجيتها عن الخلافة من مجتمع مادي إلى مجتمع افتراضي منظم يعمل على نقل أهداف داعش بشكل مستقل عن المنظمة، وبهذ فإن هزيمة داعش في سوريا والعراق قد لا تكون كافية لهزيمة تنظيم داعش العالمي.
عن الرأي