بقلم: د. محمد الدعمي
إذا أنت لم تفقه مسببات الجلبة الجارية في الولايات المتحدة الأميركية اليوم من وراء إحالة القاضي “أنتوني كنيدي” نفسه للتقاعد نهاية الشهر القادم، فإنك لا تدرك أهمية المحكمة العليا Supreme Court في نظامهم السياسي القائم، ذلك أن هذه المحكمة تعد أعلى سلطة في البلاد، بل هي أهم من سلطة الرئيس الذي يقود السلطة التنفيذية فقط.
إن أية مراجعة لبنية هذه المحكمة لا بد أن تشير إلى أن أعضاءها (وهم أهم القضاة الأحياء وأنزههم في أميركا) ينقسمون على فريقين: الأول، هو فريق المحافظين؛ أما الثاني، فهو فريق الليبراليين. أما القاضي كنيدي، فتنبع خطورة دوره من أنه قاضٍ “متأرجح”، فهو يسلك سلوكا ليبراليا أحيانا، ثم يسلك سلوكا محافظا في أحيان أخرى. وبذلك يكون صوته دوره حاسما في ترجيح كفة أحد الفريقين حول تقرير أهم القضايا التي تشغل المجتمع الأميركي، أي قضايا من نوع زواج المثليين والقوانين المانعة للتمييز تأسيسا على لون البشرة والموافقة على منع الرئيس لمواطني دول إسلامية معينة من دخول أميركا وكل ما يتصل بالحريات الفردية العامة، من بين قضايا أخرى يجب أن تقررها المحكمة العليا فقط، وعلى الرئيس الأميركي الامتثال لها حرفيا، وإن لم يفعل فإن عليه يتوقع أن يقصى أو يعزل، كما حدث للرئيس نيكسون بسبب فضيحة “ووترجيت”، وما هدد به الرئيس بيل كلينتون من بعده، بسبب الكذب تحت طائلة الحلفان (أي القسم).
ومن أهم بواعث خطورة دور قضاة المحكمة العليا هو أن أعضاءها لا يعفون ولا يستبدلون، اللهم إلا إذا توفي أحدهم أو أحال نفسه للتقاعد طوعا، كما فعل القاضي كنيدي أعلاه بموعد أقصاه نهاية الشهر القادم، “للتفرغ لحياته الأسرية”، بعد أن بقي عقودا عضوا في هذه المحكمة، أي منذ عهد الرئيس الذي عينه، رونالد ريجان. لذا، فإن القاضي الذي سوف يعينه الرئيس في المحكمة العليا ويحظى بموافقة الكونجرس بديلا، يمكن أن يبقى عقودا ممسكا بمفاتيح الحل والعقد في كل ما له شأن قانوني خطير التأثير على المجتمع الأميركي.
أما لماذا يفقد الديمقراطيون أعصابهم هذه الأيام بسبب إعلان القاضي كنيدي بأنه سيتقاعد نهاية الشهر يوليو، فهو أن مقعده الشاغر لا بد أن يملأ من قبل قاضٍ جديد يرشحه الرئيس دونالد ترامب، الأمر الذي سيثقل من كفة القضاة اليمينيين المحافظين على حساب كفة القضاة الليبراليين الذين يؤيدهم الحزب الديمقراطي، حتى وإن جاء رئيس ديمقراطي من حزبهم إلى سدة الحكم لأنه لن يتمكن من استبداله.
ومما يزيد مخاوف الديمقراطيين أكثر هو احتمال تعيين الرئيس دونالد ترامب قاضيا محافظا (أي مؤيدا له، وللجمهوريين) الأمر الذي سيقضي على آمال الديمقراطيين بعزل الرئيس دونالد ترامب بسبب ما يوجه إليه من تهم بأنه قد تواطأ مع الكرملين (الرئيس بوتين) من أجل إفشال المرشحة المنافسة له، هيلاري كلينتون، في انتخابات 2016 الرئاسية. وبكلمات أخرى، إذا ما كشفت التحقيقات ثمة تواطؤا بين حملة الرئيس الانتخابية وبين الروس، فإنه يمكن للرئيس دونالد ترامب إلغاء نتائج لجنة التحقيق (المعرفة بلجنة مولر) سوية مع كافة خلاصاتها وقراراتها وتوصياتها: ويمكن لترامب كذلك أن يعفي من يريد وبضمن ذلك نفسه شخصيا، إن تمت إدانتهم أو إدانته بالتواطؤ مع موسكو (جريمة التخابر مع دولة عدوة) للفوز بالانتخابات. كل هذا يكون ممكنا إن حلّ قاضٍ مؤيد للرئيس ترامب محل القاضي المغادر، أنتوني كنيدي!