بقلم: د. محمد الدعمي
إنه لمن المؤسف حقا أن نلاحظ أن ريادية عالمنا العربي والشرق أوسطي لا تحدها إنجازات العلوم والاكتشافات التي تحققت عبر تاريخنا، ذلك أن هذه الريادية امتدت كذلك إلى السلبي من السلوكيات والأعمال المدانة، ماضيا وحاضرا.
وإذا كان عالم الاغتيالات السياسية السري قد عبر عن وجوده عبر دول العالم عامة، غربية وشرقية، إلا أنه من الإنصاف أن نذكر أن “أول جماعة متخصصة” بالاغتيالات السياسية في التاريخ قد ظهرت بين بلاد فارس وسوريا، وعبر العراق، بطبيعة الحال. عرفت هذه الجماعة بـ”الحشاشين”، نظرا لتناول المنفذين “الحشيش”، علما أن ممارسات هذه الجماعة السرية قد تركت آثارها على العالم أجمعين، بدليل استعارة اللغات الأوروبية لفظ “حشاشين” من اللغة العربية كي “تفرنسه” و”تؤنجلزه”، ليخرج علينا من جديد بدلالة لفظ “الاغتيال”، السياسي خاصة: Assassins.
هذا عالم مرعب لا يدخله إلا هؤلاء الذين انتزعوا قلوبهم، فباعوها مقابل ما ينفذونه من جرائم. ولا شك بأن الاغتيالات السياسية لم تعد تحمل رسالة دينية سياسية، كما كانت عليه الحال على عصر الحشاشين، باعتبارهم من الفرق الإسماعيلية، “النزارية”، وإنما راحت تتناهى إلى صلب تخصصات الأجهزة الأمنية والاستخبارية عبر كافة دول العالم. وهذا هو ما يفسر الإجابات العصية على أسئلة حول هذا العالم السري.
لم يزل العالم اليوم يحاول فك رموز متاهة العديد من الاغتيالات السياسية التي غيّرت مجرى التاريخ. ولا ريب أن من أهم هذه العمليات التي لم يتمكن أحد من فك رموزها، هو ما ابتليت به عائلة آل كنيدي من اغتيالات غامضة: ابتداءً من عملية قتل “جون كنيدي”، الرئيس الأميركي الراحل 1963، الذي اغتيل وهو في سيارة لتحية الجمهور عبر شوارع مدينة “دالاس”، بتكساس. لقد اغتال أحدهم الرئيس ببندقية فظيعة الدقة لم تخطئه رصاصاتها قط، ثم تم اغتيال منفذ العملية نفسه كي يموت السر معه!
أما أخوه “روبرت كنيدي”، فقد اغتيل قبيل فترة وجيزة من فوزه بالانتخابات الرئاسية عن الحزب الديمقراطي 1968، إلا أن الإرادة السرية، الأعلى سطوة من سطوة صناديق الاقتراع لم تمهل هذا المرشح المضمون الفوز بالرئاسة، إذ باشره شاب فلسطيني اسمه “سرحان سرحان” ليطلق عليه عددا من الرصاصات، فيرديه قتيلا مسجى على أرض مسرح العملية. وإذا كان القاتل، سرحان، لم يزل حتى الآن بالسجن لقضاء محكوميته الثقيلة، فإنه ما لبث وأن طلبت منه إدارة السجن التهيؤ لزائر مهم ينوي رؤيته وتوجيه بعض الأسئلة إليه: ولكن من هو هذا الزائر؟ إنه ابن روبرت كنيدي الذي أعلن عن الزيارة عبر الإعلام، نظرا لاكتشافه بأن رصاصات مسدس سرحان سرحان لم تكن هي المسؤولة عن قتل والده، وإنما تمت إماطة اللثام عن بضعة رصاصات أخرى، هي التي قضت على والده، ذلك الهدف العالي الأهمية: هذه الرصاصات الغامضة المصدر، تختلف عن الرصاصات التي أطلقها سرحان سرحان، بل والأغرب هو أنها لم توجه إليه من الجهة الأمامية، أي من جهة المنفذ سرحان، ولكنها قد وجهت إليه من الخلف لتخترق ظهره!
هذه من الغرائب التي تثير الدهشة: فعلى الرغم من الاعتقاد بأن ملف اغتيال “روبرت كنيدي” قد أغلق منذ سنة 1968، إلا أن ابنه راح يطالب الآن بفتح ملف التحقيقات حول اغتيال والده مجددا، ولكن من جهة الظهر وبطلق ناري يختلف تماما عن ذلك الذي استعمله “سرحان” المسكين.
إن إعادة التحقيقات في عمليتي اغتيال الأخوين كنيدي (جون وروبرت) إنما ستزيد من تعقيد المشهد السياسي في الولايات المتحدة، زد على ذلك إمكانية مطالبة ذوي مغدورين آخرين بإعادة التحقيق في اغتيال ذويهم، بسبب عدم التوصل إلى نتائج حاسمة عن هوية الشخصية أو الجهة المنفذة. والحق، فإن هذا هو ما تطالب به أسرة الرئيس المصري الراحل “أنور السادات” الآن، إذ إن هذه القصة غير مقتنعة بالنسبة لأسرة السادات ذلك أنه قد قتل ليس بسبب هجوم المستعرضين أمام المنصة، وإنما بسبب رصاصة أخرى من جهة غامضة.