القسم : بوابة الحقيقة
الأخطاء الطبية
نشر بتاريخ : 10/28/2017 11:36:24 AM
الدكتور فايز أبو حميدان


بقلم: الدكتور فايز أبو حميدان

الاعتراف بالخطأ ليس فضيلة فحسب بل أخلاق وشجاعة ... جَميعنا معرضون لارتكاب أخطاء مختلفة في شتى مجالات حياتنا سواءً كان بقصد أبو بغير قصد، فلا يوجد شخص معصومٌ من الخطأ لكن الخطأ الأعظم يكمُن في إخفاء الخطأ وعدم الاعتراف به، فالتصريح الفوري عنه بكل شفافية ووضوح دون ترددٍ أو خوف يُعد أمراً في غاية الأهمية وشجاعة تنطوي على حكم عظيمة وقيم أخلاقية نبيلة، وذلك لإمكانية الإسراع في معالجة المضاعفات وتقليص الخسائر الإضافية التي تترتب بعد ارتكابه بشكل فوري، وحجب الطريق أمام سلسلة من الأخطاء والمضاعفات التي قد تنتج عنه لاحقاً، فإخفاء الخطأ وعدم الاعتراف به بدلاً من محاولة معالجته ودراسة اسباب حدوثه يجعل تصويب الأوضاع إلى ما كانت عليه أمراً صعباً ومحفوف بالمخاطر والخسائر وقد يكون في بعض الأحيان مستحيلاً.

إن التعامل مع الأخطاء الطبية فن يجب على الطبيب إتقانه بقدرٍ كافٍ كونه الشخص الأول المؤتمن على صحة المريض وحياته وهذا بحد ذاته ينعكس على سلوكياته أثناء تأديته لواجبه مما يوجب ويُحتّم عليه مراعاة الضوابط الأخلاقية اللازمة لممارسة هذه المهنة النبيلة السامية بكل إتقانٍ وإخلاص وعدم التهاون بها ولا الاستخفاف بأهميتها، لذا فإن التسلُّح بالمصداقية والشفافية والوضوح في التعامل مع المريض والمجتمع أمراً ضرورياً وحاجة ملحة من شأنها توّليد وتعزيز الراحة والثقة فيما بينهم الأمر الذي ينعكس ايجابياً على طبيعة التواصل ونجاح العلاج، فعلى سبيل المثال بناء الثقة في العلاقة بين الطبيب والمريض يعد عنصراً أساسياً وعاملاً حاسماً في رحلة العلاج فوجوده يتصدر الجانب العلاجي وفقدانه يحول دون فعالية العلاج.
هذا وقد أثبتت الدراسات الطبية الحديثة ان المصارحة المتبادلة بين الطبيب والمريض في حال وقوع أخطاء أو مضاعفات أو سوء فهم هي الطريقة المثالية لحماية الطبيب وحل النزاعات وتقليل عدد القضايا المقامة ضد الأطباء والمؤسسات الصحية. فالاعتراف الفوري بالخطأ والمصارحة به بكل شفافية والاعتذار بكياسة ولباقة قد يقطع الطريق أحياناً أمام نزاعات وقضايا ربما تدوم سنوات طويلة. فلا يوجد مجال في الطب لا تَحدُث به بعض الأخطاء وخاصة تلك التي تقع بمحض الصدفة وبصورة مُفاجئة وغير مقصودة، فالخطأ الطبي لا يقتصر حدوثه على عدم وجود الكفاءة أو الخبرة أو الممارسة العملية لدى الطبيب كما يعتقد الكثير من الناس، إلا انه قد يحدث بسبب وجود حالة طارئة تتطلّب سرعة الإجراءات لمواجهة المضاعفات أو استخدام طريقة حديثة وتجريبية في علاج الحالات المعقدة والحرجة، فطيلة حياتي الطبية لم أصادف خطأ طبي متعمد كان القصد منه الحاق الضرر بالمريض، ولكن إمكانية حدوث بعض الأخطاء الطبية أمر وارد وموجود في جميع المستشفيات والمؤسسات والمراكز المعنية بتقديم خدمات الرعاية الصحية في القطاع الطبي لكنها قد تختلف في نوعيتها وأسباب حدوثها، كما ان أعداد الوفيات بسبب هذه الأخطاء تجاوز مئات الالاف في معظم أنحاء العالم بما في ذلك دول أكثر تقدماً وتطوراً في مجال الطب ولديها قوانين صارمة جداً للمسائلة الطبية ونخص بالذكر هنا الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، استراليا ومعظم الدول الأوروبية.

لقد شهدت ساحات المحاكم خلال الفترة الماضية عدد كبير من القضايا بهذا الخصوص، لكن ما يحدث للأسف هو قيام بعض الأطباء والمؤسسات الطبية بإنكار وجود أخطاء طبية وعدم مراعاتهم لضرورة التعامل مع هذا النوع من القضايا بحكمة وصدق وشفافية كونها تقتضي دفع تكاليف عالية لتعويض الطرف المتضرر مالياً بحيث يتم تقديره وفقاً لحجم الضرر المادي والمعنوي الواقع عليه، كما وقد يتم انكار الأخطاء الطبية بدافع الحفاظ على سمعة الطبيب أو المنشأة الصحية وربما خوفاً من فقدان التراخيص الطبية اللازمة لمزاولة عملها.

صدرت دراسة من بوسطن أجريت على 989 شكوى مقدمة من مرضى لاعتقادهم بوجود اخطاء طبية، إلا أنه تبين لاحقاً بعد مناقشة هؤلاء المرضى والجهات المسؤولة في المؤسسات الصحية وجود 241 خطأ طبي فعلي وقد تم تعويض هؤلاء المرضى المتضررين من إدارة تلك المؤسسات مبلغ إجمالي وصل 75 ألف دولار أمريكي، ولكن لو قام هؤلاء المتضررين برفع قضايا قضائية ضد تلك المؤسسات لتجاوزت تكاليف المحاماة والتعويضات المالية بضعة ملايين من الدولارات إضافة إلى الإساءة لسمعة تلك المستشفيات، فالاعتراف بوجود الخطأ الطبي ودراسة اسباب حدوثه ومحاولة معالجته يُسّهل إمكانية تصويب الأوضاع بأقل الخسائر.

هذا وقد أدى تفشي ظاهرة انكار الخطأ الطبي مؤخراً إلى إجبار الكثير من الدول على أخذ الموضوع على محمل الجد وانتهاج سياسات وتدابير وطرق رقابية شديدة وصارمة من شأنها تفعيل رقابة لجان مختصة يتم تشكيلها من قِبل الوزارات المختصة ونقابات الأطباء، ووضع سجلات وطنية تتابع الحالات الطبية في المنشآت الصحية سنوياً تشمل أعداد المرضى والمضاعفات الطبيعية وتقارير الحوادث والأخطاء الطبية، بالإضافة إلى وضع قواعد ومعايير معينة للتفريق بين المضاعفات الطبيعية والاخطاء الطبية وذلك لوجود ضبابية كبيرة بشأن هذه المسألة.

إن سن قانون للمسألة الطبية في الأردن أصبح مسألة ملحة جداً فهو لا يخدم مصالح المريض وذويه فحسب بل يخدم المؤسسات الطبية والأطباء، لذا يجب أن تتظافر الجهود لسن قانون يراعي مصالح الجميع، وانتهاج الشفافية والمصداقية في التعامل مع الأخطاء والحوادث الطبية.

جميع الحقوق محفوظة © الحقيقة الدولية للدراسات والبحوث 2005-2023