في أواخر ستينيات القرن الماضي، صرّحت غولدا مائير، رئيسة
وزراء الكيان الصهيوني آنذاك، بقولها: «إن خُيّرنا بين موتٍ يُثير الرثاء، أو
حياةٍ تلاحقها السمعة السيئة، فإننا سنختار أن نحيا ولو كنا مكروهين.» وبعد نصف
قرن، مضى الكيان في تنفيذ ما قالته حرفيًا، فتجسّدت مقولتها في أفعاله، وكان آخرها
الاعتداء الآثم على دولة قطر الشقيقة.
في السابع من سبتمبر، غرّد الرئيس الأمريكي على موقع «تروث
سوشال» قائلاً: «لقد وافق الإسرائيليون على خطتي لوقف الحرب، وحان الوقت أن تقبلها
حماس. لقد حذّرت حماس من عواقب رفضها، وهذا تحذيري الأخير، ولن يكون هناك تحذير
آخر.» وأعلنت حماس أنها تلقت أفكاره عبر وسطاء وأبدت استعدادها للجلوس إلى طاولة
المفاوضات. وغادر وفدها قطاع غزة عبر تركيا متجهًا إلى قطر لعقد اجتماع خُصص لبحث
المقترح الأمريكي. غير أنّه، وبعد يومين فقط من تغريدات ترامب، شنّ الكيان
الصهيوني غارة جوية غادرة استهدفت قيادة حماس في الدوحة أثناء اجتماعهم، لكن
الضربة باءت بالفشل ولم تُصب أيًا من القيادات بأذى. ومع ذلك، فقد ارتقى بعض
مرافقيهم شهداء، بينهم نجل القيادي في الحركة خليل الحية وجندي قطري.
لا يساورني أدنى شك في أنّ هذه العملية جرت بموافقة أمريكية.
ولا أريد الانزلاق إلى نظريات المؤامرة التي تزعم أنّ مقترح واشنطن كان فخًا
لاغتيال قادة حماس، لكنني على يقين بأنّ ملف المفاوضات برمّته لم يكن سوى تسويف
سياسي، وأنّ الهدف الحقيقي رُسم منذ البداية: احتلال غزة، وتهجير أهلها، والقضاء
على حماس. ولم تُدن الولايات المتحدة العملية، بل اكتفت باتصال أجراه ويتكوف
بالقطريين بعد فوات الأوان. وكان في وسع ترامب أن يوقفها بسهولة، فهو الذي سبق أن
أمر الطائرات الصهيونية بالعودة أدراجها وهي في طريقها لقصف إيران، وكان قادرًا،
بالطريقة ذاتها، أن يمنعها من الوصول إلى قطر.
وحتى إذا سلّمنا بما قاله ترامب من أنّه لم يكن مسرورًا
بالعملية، فقد يُفسَّر ذلك برغبته في النأي بنفسه عن الفشل، أو ربما لم يُبلّغ بها
إلا بعد وقوعها. لكنّ الحقيقة تبقى ثابتة: سواء أكانت واشنطن شريكة في الاعتداء أم
غافلة عنه، فإنّ ما جرى زعزع مكانتها الدبلوماسية ووجّه ضربة قاسية لما تبقّى من
مصداقيتها في المنطقة.
كان لاستهداف قطر جملة من الأهداف: إفشال المفاوضات، معاقبة
الدوحة وتخويفها بسبب موقف قناة الجزيرة التي يراها الكيان مؤجّجة للشعوب وكاشفة لجرائم
الإبادة في غزة، فضلًا عن محاولة شلّ دورها في الوساطة لوقف المجزرة. كما أراد
الكيان أن يبعث برسالة إلى العواصم العربية مفادها أنّه قادر على بلوغ أي مكان دون
رادع، انسجامًا مع أيديولوجية نتن ياهو القائلة إنّ السلام يُفرض بالقوة، وأنّ
الكيان هو القوة الوحيدة التي ينبغي أن تُخشى، لتجد الدول العربية نفسها مكرهة على
التحالف معه ضد «التهديد الإيراني»، رغم ما يعيشه من عزلة متفاقمة في الإقليم.
سيُسجَّل التاسع من سبتمبر تاريخًا مفصليًا في المنطقة
والعالم، ففيه تساقطت مسلّمات طالما عُدّت راسخة: أنّ القواعد الأمريكية تكفل
حماية الدول المستضيفة، وأنّ السلاح الأمريكي يضمن أمنها، وأنّ معادلة «الأمن
والنفط مقابل الحماية» قد طُويت صفحتها إلى غير رجعة. وقد تبيّن أنّ تلك القواعد
والسلاح الأمريكي لا وزن لهما في حماية هذه الدول، وأنّ الولايات المتحدة لا تسخّر
قواعدها إلا لحماية مصالحها هي، لا مصالح من يستضيفها.
لقد توهّم العرب، وهم مخطئون، أنّ وجود القواعد الأمريكية
يحقق هدفين: ردع إيران وضمان استقرار الدول المستضيفة. غير أنّ الاعتداء على قطر
سيدفعهم إلى إعادة النظر في هذه القناعة الموهومة. وستواصل الولايات المتحدة سياسة
العصا والجزرة مع العرب، لتمنعهم من تجميد الاتفاقيات الإبراهيمية أو معاهدات
السلام، أو من فرض حصار على الكيان واتخاذ خطوات حازمة حياله. وقد بدأت ذلك مع قطر
بالخطاب المعسول ومغازلتها، ثم أوكلت إلى وزير خارجيتها مهمة وضع اللمسات الأخيرة
على معاهدة الدفاع المشترك. ومن المرجح أن تنجح واشنطن في مسعاها، فتتخذ الدول
العربية قرارات محسوبة لامتصاص الغضب الرسمي والشعبي، وإن كانت ستلجأ بالتوازي إلى
قدر من التحوّط الهادئ.
وفي ظل هذه التحولات، قد يُعاد رسم خريطة الأصدقاء والأعداء،
فينشأ تقارب عربي مع قوى إقليمية مثل إيران وتركيا. ورغم أنّ العرب لن يتمكّنوا من
إغلاق القواعد الأمريكية، فإنّ المشهد قد يشهد ظهور قواعد صينية وروسية جديدة إلى
جانبها. كما سيسعى العرب إلى تنويع مصادر تسليحهم عبر التوجّه شرقًا نحو الصين
وروسيا، وبناء صناعات عسكرية محلية تعزز استقلالهم الدفاعي. وربما يواكب ذلك تقارب
عربي أعمق وتفعيل أكبر لدور الجامعة العربية ومجلس التعاون الخليجي.
ولعلّ ترامب نفسه يدرك الآن أنّ ترك نتن ياهو طليق اليدين قد
تحوّل إلى خطر مباشر على المصالح الأمريكية.