بقلم: محمد يوسف الشديفات
الاقارب والجيران والاصدقاء وعموم سكان القرية والقرى المجاورة، بدأوا بحراثة اراضيهم استعداداً لزراعتها واستقبال الموسم المطري الذي شارف على الوصول، الا ذلك الشيخ المعروف بين سكان القرية ببخله الشديد، وحرصه المبالغ فيه، فقد نفقت دابته في السنة الماضية، بعد ان خارت قواها بين الحراثة والنقل.
كان للشيخ خمسة اولاد، وكانوا بارّين بوالدهم، يحترمونه ويقدّرونه، وعلى الرغم من بخله الشديد، الذي طالما كان سبباً في احراجهم امام اقرانهم، الا انهم لم يودوا ان يخرجوا عن أمره ويتصرفوا حسبما يرونه مناسباً لهم وله، وبعد ان تأخر قرار شراء الدابة، اجتمع الاولاد مع والدهم وشرحوا له مخاطر تأخير حراثة الارض، والمجازفة في هذا الامر الذي لم يعد يحتمل التأخير.
كان الوالد يعلم جيداً حقيقة الامر، وكان الاولاد يعلمون جيداً ان والدهم يدرك خطورة ذلك ربما اكثر منهم، الا انهم يعلمون ايضاً أنه "أشحّ من ذات النحيين"، وبعد مداولات واجتماعات، وجلسات عصف ذهني، تخللها مناورات ومحاولات للإلتفاف حول الغاية النبيلة من قبل الوالد، قرر أخيراً الذهاب للسوق مع اولاده الخمسة لشراء الدابة، والبدء بحراثة الارض، وبالرغم من الشكوك التي ساورت الابناء ليلة اتخاذ والدهم لذلك القرار، الا ان غداّ لناظره قريب، وفيه ستدحض الشكوك والمخاوف.
وصل الشيخ مع اولاده الى السوق، وبدأ بتفحص الدواب المعروضة في السوق، وكانت جميعها بحالة جيدة، نظر الشيخ الى المال في جيبه، فصعب عليه الأمر، وبدأ باختلاق العيوب في كل دابة يحاول اولاده ان يقنعوه بأنها تفي بالغرض، وبأن سعرها مقبول، وانه لا مفر من شراء الدابة وحراثة الارض، وانهم لا يريدون ان يتصرفوا دون موافقته احتراماً له ولمكانته، عندها قرر الشيخ العودة الى المنزل متذرعاً بأن الوقت قد تأخر وبأن الدواب المعروضة في السوق ليست بالمستوى المطلوب، وبأنهم سوف يعودون في اليوم التالي لإكمال رحلة البحث عن الدابة!
السيناريو ذاته الذي حدث بالأمس، تكرر في اليوم التالي، بحث ومفاوضات وتقليب للدواب، تخللها مشاحنات بين الاولاد ووالدهم من جهة، وبين الوالد والتجّار من جهة أخرى، وفي كل مرة ينظر فيها الشيخ للنقود في جيبه، يسوّف في شراء الدابة، خالقاً الحجج الواهية والأدلة الدامغة التي تؤجل ذلك الأمر الذي لا مهرب منه، وها هو اليوم الثاني ينتهي ذات النهاية المأساوية دون ان يتم شراء الدابة.
وتتوالى الايام، الوقت يداهم الجميع، والمطر لا ينتظر احداً حتى يحرث ارضه، الا ان الاحداث ذاتها تتكرر كل يوم، رحلة صباحية الى السوق، وعودة الى المنزل في المساء دون اتمام المهمة، الى ان أشفق الشيخ "البخيل" على اولاده من تصرفاته، الا انه بخله كان جبلاً على صدره، وعندها جمع أولاده وقال لهم:
"يا أولادي، ألقوني أرضاً، وخذوا النقود مني، واشتروا الدابة، فوالله ان قلبي لن يطاوعني ان أخرج هذا المال من جيبي ما حييت".