احمد ذيبان
هذه أول مرة ينحدر فيها السلوك السياسي في الامم المتحدة الى هذه الدرجة،أن تهدد الادارة الاميركية الدول التي ستصوت ضدها في الجمعية العامة بشأن قضية القدس، بمعاقبتها بقطع المساعدات عنها ، بمعنى طرح معادلة «الغذاء مقابل التصويت « ! وهو ما يعيد الى الاذهان قرار مجلس الأمن رقم «986» سيء الصيت الذي أقر عام 1995 ، وسمح للعراق الخاضع لحصار خانق ، ببيع كمية محدودة من نفطه وفق شروط صارمة وآلية معقدة وبإشراف لجان دولية لشراء الغذاء والدواء ، وحمل عنوان»النفط مقابل الغذاء والدواء» !
وكان ذلك القرار في الواقع من ابتكار العقلية الأميركية الشريرة ، التي ظلت تصر على استمرار الحصار الوحشي على العراق ، الذي تسبب بقتل ومرض ملايين العراقيين بمن فيهم أكثر من نصف مليون طفل ! وها نحن اليوم أمام نفس العقلية رغم اختلاف الاسماء ،إدارة تستخف بالقانون والشرائع الدولية ،وتمارس البلطجة السياسية وتتعامل مع دول العالم بعقلية شراء المواقف !
وعلى ذكر المساعدات، فقد نشرت مجلة «دويتشه فيله» الالمانية ،وفق إحصاءات عام 2016، اللائحة الكاملة لما تأخذه 20 دولة عربية من واشنطن، التي قدمتها «الوكالة الأميركية للتنمية الدولية»، المعروفة اختصارا بـUSAID، لـ15 سنة الماضية. وهو مبلغ تافه يقارب « 10 » مليارات دولار!! مقابل المساعدات الهائلة التي تتلقاها اسرائيل ،والتي ستبلغ 38 مليار دولار خلال السنوات العشر المقبلة، فيما بلغ حجم المساعدات الأميركية الى اسرائيل منذ عام 1973 نحو « 1,6 « تريليون دولار (أي 1600 مليار دولار)!
في مجلس الأمن تلقت واشنطن صفعة أخرى يوم الاثنين الماضي ،بموافقة 14 دولة على مشروع قرار مشابه، لكنها كانت واثقة من حماية نفسها باستخدام « الفيتو» ،الذي يشكل أسوأ وسيلة ظلم ،واستقواء بيد الخمسة الكبار في المنظمة الدولية، ومن الغرابة أن المنتصرين في الحرب العالمية الثانية أسموه «حق النقض»! ولعل نتائج وتداعيات معركة القدس في الامم المتحدة ، تستوجب البحث عن صيغ جديدة ل»دمقراطية» المنظمة الدولية !
ورغم البلطجة والابتزاز الأميركي ، جاءت نتيجة تصويت الجمعية العامة بمثابة هزيمة سياسية مدوية لادارة ترمب، حتى أقرب حلفائها لم يستطيعوا مجاملتها في ممارسة حماقة سياسية ، ولم تجد من يخضع لابتزازها سوى سبع دول هامشية ،وبعضها» مجهرية» لا يزيد عدد سكانها عن» 10» ألف نسمة ومساحتها عن» 21 « كيلومترا مربعا، أي بحجم قرية في الصحراء الاردنية ! ومع ذلك لا يجوز الاستهانة بالدول ال» 35» التي امتنعت ، فهي خضعت للترهيب ، و « 21» دولة قاطعت الجلسة لعدم إحراج نفسها ، والمفارقة أن إحداها أوكرانيا العضو غير الدائم في مجلس الامن ،التي صوتت ضد القرار الاميركي في جلسة مجلس الاخيرة حول القدس ! وبالمجمل فإن الدول ال «65» التي صوتت ضد أو امتنعت وقاطعت ،اصطفت عمليا الى جانب الموقف الاميركي- الاسرائيلي !
قرار الجمعية العامة غير ملزم ، وفي أرشيف الصراع العربي الاسرائيلي ،هناك نحو « 230» قرارا دوليا لصالح العرب لم يطبق منها شيء ! لكن القرار الجديد يكتسب رمزية سياسية ،لكونه أظهر أقوى دولة في العالم معزولة ، ويشكل دعما معنويا للشعب الفلسطيني ، وتصفه القيادة الفلسطينية ب»انتصار» ، فماذا ستفعل به ؟ ولكي لا تأخذها «نشوة الانتصار» ، فإن المطلوب منها الكثير للبناء على هذا الانجاز.
فادارة ترمب لن تتراجع ، وربما المسألة أصبحت أكثر تعقيدا على صعيد الرهان على مفاوضات «صفقة القرن» ! بالتأكيد القرار فتح آفاقا سياسية أوسع أمام القيادة الفلسطينية للتحرك، لعل أهمها وأولها استكمال المصالحة الوطنية ، بجانب العمل الجماهيري في مواجهة الاحتلال ، ومهما بلغت غطرسة أميركا فهي دولة مصالح، وهو ما يتطلب التعامل معها وفق هذا المنطق ، من خلال استخدام العديد من الأوراق السياسية والاقتصادية التي يمتلكها العرب والقيادة الفلسطينية، واستثمار التأييد الدولي الواسع ، والعمل مع الدول المهمة والمجموعات الدولية الفاعلة ،مثل الاتحاد الاوروبي والصين وروسيا ، وحركة عدم الانحياز ومنظمة التعاون الاسلامي. ومن الوارد أن يكون تصويت بعض الدول لصالح القرار، كان لأغراض المجاملة ، وقد تغير مواقفها تحت الضغوط مستقبلا !
وهناك العديد من الافكار والمقترحات والاجراءات ، تطرحها القوى والشخصيات الفلسطينيية تتعلق بالرد المطلوب ، المعتمد على تأييد دولي كاسح ضد القرار الاميركي ، يضمن ذلك الاستغناء عن المساعدات الاميركية المذلة.
عن الرأي