بقلم: د. ناصر محمود الصوير *
لا يخفى على أحد بأن الظروف الراهنة هي الأخطر على الإطلاق على مصير القضية الفلسطينية برمتها نتيجة عوامل كثيرة ومتعددة فلسطينية وعربية وإقليمية ودولية، ولكن الأخطر من بينها جميعاً هو تواصل الانقسام وانسداد الأفق لإتمام مصالحة ناجحة وممكنة بين السلطة الفلسطينية وحماس، هذا الانقسام الذي يلقي بظلاله القاتمة شديدة السواد على أكثر من مليوني فلسطيني من أبناء الشعب الفلسطيني يعيشون في قطاع غزة؛ يعانون بشدة ويتجرعون المر والعلقم من نتائجه وتبعاته منذ أكثر من عشر سنوات؛ ، هذا الانقسام المقيت الذي كانت له بداية ولا تبدو له نهاية وكأنه قدر كتب عليهم أن يتكبدوه صاغرين دون أن تكون أمامهم بارقة أمل واحدة في التخلص منه وتجاوزه، هذا الانقسام الذي تحول إلى كابوس مؤرق يقض مضاجعنا جميعاً، ويفتت شملنا، ويبدد أحلامنا ويهدد مصيرنا بالحصول ولو على الحد الأدنى من حقوقنا أمام عدو ماكر غاشم ينظر إلينا جميعاً دون استثناء أو تمييز أو تصنيف نظرة واحدة ، نعم كلنا أمامه سواء وبندقيته الموجهة لصدورنا لا تفرق بيننا على الإطلاق!!
لا أريد أن أشرح الوضع المأساوي الذي تحياه غزة حالياً فهو ليس بخاف على أحد، لكني أؤكد أن استمرار الصراع المحموم بين السلطة وحماس أو إن شئت قل بين فتح وحماس لمدة عشر سنوات، يضع علامات تعجب كبيرة وهالات غموض كثيرة حول ماهية هذا الانقسام المقيت الذي يستمر ويتواصل ويتدحرج ويكبر يوماً بعد يوم، وليس له في الآفاق أي بوادر لأي حل، بل على العكس تماماً يزداد سوءً وتعقيداً، ولا يبدو له أي مخرج قريب. الأمر الذي ألقى ولا زال بآثاره السلبية ونتائجه الوخيمة على أبناء القطاع الذين يرزحون تحت هموم: البطالة المستشرية كالسرطان في الجسد المنهك، وانقطاع الكهرباء 20 ساعة في اليوم، والحصار المتواصل، وإغلاق معبر رفح، وارتفاع معدلات الفقر والعوز، والتفكك المجتمعي، وغيرها من المشاكل المعقدة التي لا يطول الحديث بشأنها.. هذا الانقسام الذي سيسجله التاريخ شئنا أم أبينا أنه وقع بسبب صراع محموم بين حركتي فتح وحماس على السلطة والنفوذ في القطاع ، ولن يتيح (التاريخ) لكلا الحركتين أن تسوقا الكثير من المبررات والتعليلات والأسباب لما حدث ومن الجاني ومن المجني عليه؟! ومن السبب ومن المتسبب؟! ومن الضحية ومن الجلاد؟! فالتاريخ سيذكر فقط أن انقساماً كارثياً وقع بين قطبي الشعب الفلسطيني أدى إلى تقسيم المقسم وتجزيء المجزأ وضياع ما تبقى من الأحلام الضئيلة باستعادة ولو جزء محدود من حقوقنا ومقدراتنا المنهوبة.. سيذكر التاريخ أن هذا الانقسام وقع ولن يطيل الشرح في الأسباب، بل سيسهب في شرح النتائج الخطيرة التي لحقت بالشعب الفلسطيني وبقضيته وسيتهم كل من كان في قيادة الشعب الفلسطيني بالتسبب في هذه النتائج الوخيمة.
ليس خافياً على أحد أن لدى فتح الكثير من المبررات لتسوقوها دائماً لإدانة الطرف الآخر وأقصد هنا حركة حماس واتهامها بالتسبب بالانقسام وبإفشال كل محاولات المصالحة، فلقد استمع الشعب من جميع القادة والمتحدثين باسم حركة فتح مراراً وتكراراً للكثير والكثير من هذه المبررات والأسباب التي تدين حسب وجهة النظر الفتحاوية حركة حماس، ولكن مع كل هذه المبررات فالجميع يعلم أن أسباب الانقسام وفشل محاولات المصالحة عديدة وكثيرة ومتنوعة بعضها تتحمله حماس، ولكن دون شك تتحمل السلطة وفتح أيضاً الجزء الآخر منه، وأنا هنا لست بصدد إصدار الأحكام وليست لتوجيه الاتهامات لهذا الطرف أو لذاك، وليس لتحديد من الجاني ومن المجني عليه بل للإشارة الواضحة والتأكيد على إنهاء هذا الانقسام وإتمام المصالحة، هو المطالب الملح على للشعب الفلسطيني برمته، فهذا الانقسام جعل الشعب شعبين والوطن وطنين والكلمة كلمتين وبات يهدد فعلاً النسيج الوطني لفلسطين وشعبها بصورة حقيقية وملموسة.
مما لا شك فيه أن الظروف المعقدة والأوضاع الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة على حد سواء هي نتيجة ما آلت إليه العلاقات بين السلطة الفلسطينية في رام الله من جهة والسلطة الحاكمة في غزة وأعني بها حركة حماس، من سوء وتردي وتراجع وسلبية، الأمر الذي بات يهدد بشدة كينونة النسيج السياسي والاجتماعي الفلسطيني بأكمله، وينذر بتداعيات خطيرة بل وكارثية على القضية الفلسطينية برمتها. وإن عدم ظهور أية نتائج ايجابية للمصالحة التي نتحدث عنها منذ شهرين برعاية مصرية جعل المواطن الفلسطيني في حالة عصبية متوترة ومزاجية صعبة خصوصاً في ظل التراجع في تطبيق بنود هذه المصالحة والدخول في أزمات وتوترات يومية لا تنتهي بين الطرفين، لدرجة أن الشارع الفلسطيني يساوي فعلاً بين جميع الأطراف في تحمل مسؤولية المعاناة والعذابات التي يتجشمها ويتكبدها.
إن أحد أسباب إطالة عمر الانقسام وفشل جهود المصالحة حتى وقتنا الراهن هو التأجيج الإعلامي المستعر بين وسائل الإعلام التابعة للطرفين(حماس وفتح) الذي أوصل الناس لدرجة الإحباط واليأس، وجعل ثقتهم تتزعزع بمكونات الحياة السياسية الفلسطينية برمتها، وكم أصبحت صورتنا ممسوخة ونحن نتقاتل عبر الفضائيات ويردح بعضنا لبعض، وننشر غسيلنا أمام الرأي العام العربي والإسلامي والدولي، لذلك على الطرفين إن أرادا إنجاح الجهود لانجاز المصالحة التوقف فوراً توقفاً تاماً عن جميع التصريحات الإعلامية واقتصار ذلك على ناطقين بعينهم. هذه الخطوة ستكون مفصلية لتهدئة الأمور وتهيئة الأجواء لمواصلة الطريق نحو تحقيق المصالحة بشكل كامل وتام.
ختاماً ليس سراً أن إفشال الجهود المصرية لإتمام المصالحة سيثير غضب وحفيظة مصر التي يجب أن يعلم الطرفان حماس وفتح بأن وضعها العربي والإقليمي لا يسمح لها بتحمل هذا الفشل الأمر الذي يعني اجراءات مصرية غير مسبوقة ستطال الفطاع برمته ولن ينجو منها أحد ... أفيقوا قبل فوات الأوان وغلبوا المصلحة الوطنية العليا على المصلحة الحزبية الضيقة قبل فوات الأوان فعلا وقبل أن نعض على أصابعنا ندما يوم لا ينفع الندم.
* باحث وكاتب ومحلل سياسي مقيم في غزة