بقلم: د. مصطفى البرغوثي*
من رأى معنا القدس في أيام الجمع الثلاث من رمضان الحالي يمكن أن يدرك سبب الهستيريا الإسرائيلية تجاه القدس والمسجد الأقصى والفلسطينيين عموما.
فبعد خمسين عاما من الاحتلال ، وخمسين عاما من الإستيطان ونشاطات التهويد، ما زالت القدس بمئات آلاف الفلسطينيين الذين تدفقوا للصلاة في الأقصى، فلسطينية عربية وإسلامية وكما الاقصى ما زالت كنيسة القيامة شامخة يزورها المسيحيون والمسلمون الفلسطينيون كلما استطاعوا لذلك سبيلا.
ورغم منع سكان قطاع غزة ، ومعظم رجال وشباب الضفة ممن هم دون سن الأربعين
( أي 90% من الشباب والرجال ) من الوصول الى القدس، امتلات ساحات الأقصى عن بكرة أبيها بمئات آلاف المصلين.
بل إن آلاف الشباب الممنوعين من دخول القدس ، نجحوا في إختراق الحواجز وتسلق الجدران ، ليصلوا الى القدس ، وبعضهم أصيب بالجراح والكسور وهم يقفزون من فوق جدار التمييز العنصري الذي أنشأته إسرائيل.
أما مئات المتطوعين والمتطوعات والمسعفين من نشطاء المجتمع المدني الفلسطيني فملأوا شوارع القدس وساحات الأقصى ، وانتشروا قرب الحواجز المؤدية للمدينة، لإسناد المرضى والناس الذين أرهقتهم متاعب السفر والحواجز، ليقدموا دليلا آخر على حيوية المجتمع الفلسطيني وتكاتفه.
وقد تساءلت، بماذا يفكر الجنود الإسرائيليون المدججون بالسلاح وهم يرون إصرار شيخ طاعن في السن أو امرأه هدتها الأمراض على السير بصعوبة للوصول ،رغم كل المشقة ، الى المسجد الأقصى وأداء الصلاة فيه.
مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يلتحمون بالقدس في كل جمعة من شهر رمضان، تجاهلوا ويتجاهلوا هؤلاء الجنود وكأنهم ظلال لا تأثير لها.
ولعل تعابير الدهشة والانبهار التي إرتسمت على وجوه الأطفال والصغار الذين رأوا القدس لأول مرة ، كانت أجمل المشاهد التي يراها الانسان، وهو يتابع استرداد القدس لأنفاسها مع كل دفقة من الجموع البشرية التي تعبر شوارعها.
مثل البلدة القديمة في الخليل، تصارع القدس القديمة احتلالها ومستوطنيه مع كل صرخة بائع في شوارعها، ومع كل طفل يولد في أزقة بيوتها، ومع كل صوت أذان في جوامعها ، وكل جرس يقرع في كنائسها، ومع كل بيت يبنى دون ترخيص في أحيائها ، وكل زواج يتم بين أبناء وبنات أهلها.
قبل سنتين زرت مدينة يافا تسللا في يوم جمعة من شهر رمضان، وذهلت من قدرة أبنائها الفلسطينيين على الحفاظ على عروبتها وتقاليدها وتراثها ، ولوهلة مع انطلاق الناس للافطار، بدا كأن المدينة عربية بالكامل .
كل زواية وكل منعطف وكل شارع في القدس جزء من تاريخ عريق ، وعلامة على حدث لا ينسى، ولو أتقن المحتلون الإسرائيليون فهم التاريخ لأدركوا أن إحتلالهم للقدس الى زوال، فقبلهم فشل الكثيرون من الغزاة في فرض طابعهم عليها. احتلوا ،ونكلوا ،وقتلوا واستوطنوا، ثم ذهبوا وبقيت القدس وبقي أهلها.
فالقدس النابضة أنفاسها بالمقاومة للظلم باقية، أما محتلوها فذاهبين.
*الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية