بقلم: د. عودة أبو درويش
كان هذا في منتصف العقد الثاني من القرن الماضي ، عندما كانت الحرب العالميّة الأولى مستعرة و تشارك فيها الدولة العثمانيّة ، والجنوب الأردني يغلي بعد أن قامت في معظم مدنه وقراه هبّة ، قامت أوّل ما قامت في الكرك ، فأخذت السلطات التركيّة بالبحث الدائم عن المطلوبين لها من الذين يقومون بتحريض الناس على الثورة ضدّها أو مساعدة الهاربين من الثوّار . وكانت قد أعدمت من رجال الكرك الكثير وألقت القبض على رجال من معان و الشوبك واعتقلتهم في سجن السراي العثماني ، الذي بني في القرن السادس عشر ، ثمّ اعدمتهم . وكان جدّي عصري أحد هؤلاء المطلوبين للدولة العثمانيّة ، وحكم عليه بالإعدام غيابيا ، وكان أيضا ابراهيم الرواد ، رئيس البلديّة ، من المطلوبين الفاريّن مع جدّي وكثير من الناس ، الى البادية المحيطة بمعان .
روت لي جدّتي ، بعد أن اشتريت لها علبة دخّان من نوع سمر ، فتحتها ثمّ اشعلت سيجارة وقالت ، كان جدّك من الخيّالة العظام ، يمتطي فرسا بيضاء ، كان يسميّها المحبوبة المهيوبة ، وكان قد تزوّجني ضرّة على أمّ ابراهيم ، ابتسمت ثمّ تابعت ، و كنت من الناس الذين جاؤوا من ارمينيا مع أمّي واسمها ( أنّا ) واخوتي ، وكان اسمي هيغا نوش ، غيّره جدّك الى فهيمه لأني كنت أعرف غزل الملابس وداية ماهرة في مساعدة النساء في الولادة . وقد مررنا بمدن كثيرة وقرى عديدة ، تعذّبنا كثيرا يا ولدي ، فأحيانا نركب القطار واحيانا نركب الحمير ، وفي الغالب نسير على أقدامنا ولكن لا بدّ أنّها مشيئة الله ، فقد استقرّ بنا المقام في محطّة جرف الدراويش التي تبعد عن الطفيلة قليلا ، وجاء جدّك الى المحطّة على فرسه ، فأعجبني ووافقت على الزواج منه ، وتزوّجت كلّ البنات الارمنيات من شباب من أهل معان ، وتزوّج أخي أيضا من فتاة معانيه .
ولأنّ جدّك كان مطلوبا للدرك التركي ، وأنا أكرههم كثيرا لأنّهم أخرجونا من بيوتنا في ديار بكر . حضروا قبل صلاة الفجر الى حوشنا في الطور . خلعوا الباب من مكانه ودخلوا علينا يسألون عن جدّك ، فقلت وأنا أرتعش أنّه ليس موجودا ولا يأتي الى معان ولا نعرف عنه شيئا . فما كان منهم الّا أن وضعوا القيود في يديّ وربطوها مع القيود التي في يديّ ضرّتي بالسلاسل ، واقتادونا الى السراي العثماني ، وأنت يا بنيّ تعرف أنّه ليس ببعيد ، ولكنّي أعرف أنّ بطش الجنود الأتراك شديد .
على مدخل السراي ، التقينا بزوجة رئيس البلديّة ، ابراهيم الروّاد ، . وكانت أيضا مندهشة جدّا لتصرّف الجنود الذين يريدون أن يسجنوا النساء ليأتي الرجال المطلوبين فيستبدلوا أنفسهم بهنّ . ولكن زالت الدهشة لمّا أدخلهم العسكر الى زنزانة في الطابق السفلي وبها امرأتان ترتديان الزي الكركي ، وكانتا بندر ومشخص المجاليّة . بندر كانت حاملا وفي شهورها الأخيرة ، وقد اقتادهما العسكر الاتراك من الكرك الى سجن السراي في معان لأنّهم يبحثون عن بعض أبناء الكرك الذين يشاركون في ايقاد شعلة الثورة ضدّ الدولة العثمانيّة التي أصبح كلّ همها جمع الضرائب من الناس واقتياد أبنائهم للحرب في جبهات القتال البعيدة .
منع عنّا العسكر التركي الماء والطعام ، فعطشنا عطشا شديدا ، وكنت دائمة السباب عليهم بلغتهم التي اجيدها ، وأطلب منهم أن يفرجوا عن المرأة الحامل من دون جدوى . وكانوا بعد أن يأخذ منّا العطش ، يأتوننا بماء من البركة الملوّثة التي بجانب السراي ، ولا يسمحون لنا بالشرب من البئر التي في وسط ساحة السراي ، فنهجم على الماء لنشربه . ثمّ فتحت فمها وقالت أترى هذه الندبة انّها من العلقة التي في الماء ، لا تزال شاهدة على قساوتهم في التعامل مع النساء ، وقد بقيت تؤلمني حتّى بعد خروجي من سجن السراي .
كانت بندر المجاليّة تتألّم في الليل فتحسب النساء السجينات أنّ موعد الولادة قد أتى ، ولكن لأنّي تعلّمت من أمّي ( أنّا ) الكثير عن توليد النساء ، عرفت أنّها ستلد بعد أيّام فازددت خوفا عليها وعلى مولودها فليس في السجن لا ماء ساخن ولا قطع قماش ولا أيّ شيء . اشتدّ المخاض , فناديت على السجّان ليحضر ماء ساخن . ضحك وكأنّه يقول من أين أحصل عليه ، وكنّا قد خبئنا بعض الماء في جردل ساعدتنا في أن يخرج المولود الذي صرخ وكأنّه يتحدّى سجّانيه ، وفيما بعد سمّاه أبوه حابس ارفيفان المجالي . حتما أنّك تعرفه فقد أصبح جنديّا كبيرا . قلت لها كبيرا للجند وقائدا لهم يا جدّتي .
سكبت الشاي لي ولها . سحبت من سيجارتها نفسا عميقا وسرحت أنا في قصّتها .فكلّ شيء مقدّر في هذا الكون . أتت هي من أرمينيا لتتزوّج رجلا مطلوبا ، فتدخل السجن وتساعد مولودا ليخرج الى الدنيا من رحم امرأة عظيمه ، فيصبح رمزا أردنيا .