حسن أبو هنية
تعتبر العمليات الانتحارية ظاهرة حديثة استدخلتها جماعات علمانية ودينية كاستراتيجية عسكرية في الحرب فقد برزت لمواجهة خصم يمتلك أسلحة عسكرية جبارة ويتوافر على طرائق فعالة لفرض السيطرة والتحكم بالسكان بحيث تصبح المواجهة المباشرة مستحيلة في ظل حالة التفوق واختلال موازين القوى وقد تأخرت الجهادية العالمية من تنظيم القاعدة إلى تنظيم الدولة الإسلامية باستخدامها بعد جدال كبير حول مشروعيتها وجدواها ثم عمدت إلى استنساخها من حركات علمانية ودينية قومية وانتهت إلى استحسانها وتفضيلها وباتت التكتيك العسكري الرئيس في استراتيجيتها القتالية الحربية.
تشير الاحصاءات التي قدمها تنظيم الدولة الإسلامية حول العمليات الانتحارية التي نفذها منذ بدء معركة الموصل في أكتوبر 2016 إلى أن العمليات الانتحارية هي استراتيجية حربية بامتياز حيث قال التنظيم من خلال رسم «إنفوجرافيك» نُشر في مجلة «النبأ» الأسبوعية، التي تصدر رسميا عن التنظيم بأن 401 من عناصره فجّروا أنفسهم في الموصل فقط خلال ستة شهور وقال التنظيم إنه تمكّن من قتل أكثر من 9100 عنصر من القوات العراقية ومليشيات الحشد الشعبي وأضاف إنه أصاب آلاف الجنود خلال المعركة.
رغم الإحصائية المثيرة للتنظيم إلا أنه يجد صعوبة بالغة في المحافظة على مناطق سيطرته في الموصل في ظل كثافة الحملة العسكرية لقوات التحالف الدولي جوا والقوات العراقية المتعددة على الأرض لكن تكتيكات العنف الانتحاري للتنظيم تظهر أنه استراتيجية عسكرية فعالة فبحسب إحصائية التنظيم أسفرت العمليات عن خسائر فادحة في القوات العراقية بالمعدات، والآليات، بتدميره 1675 آلية عسكرية تضمنت: 879 عربة همر، 125 مدرعة، BMB 47 دبابة أبرامز، 39 دبابة روسية، إضافة إلى 585 آلية منوعة. وقال التنظيم إنه بالإضافة إلى تدمير الآليات السابقة، تمكن من إعطاب نحو 400 آلية عسكرية، و25 دبابة أبرامز، إضافة إلى إسقاط وإصابة 52 طائرة استطلاع، وسبع مروحيات.
إن العمليات الانتحارية ظاهرة حديثة استدخلتها جماعات علمانية ودينية كاستراتيجية عسكرية في الحرب، فقد برزت لمواجهة خصم يمتلك أسلحة عسكرية جبارة ويتوافر على طرائق فعالة لفرض السيطرة والتحكم بالسكان بحيث تصبح المواجهة المباشرة مستحيلة في ظل حالة التفوق واختلال موازين القوى، وقد تأخرت الجهادية العالمبية من تنظيم القاعدة إلى تنظيم الدولة الإسلامية باستخدامها بعد جدال كبير حول مشروعيتها وجدواها ثم عمدت إلى استنساخها من حركات علمانية ودينية قومية وانتهت إلى استحسانها وتفضيلها وباتت التكتيك العسكري الرئيس في استراتيجيتها القتالية الحربية.
تستخدم تكتيكات العمل الانتحاري في سياق الحروب عموما لكنها أكثر استخداما في حرب العصابات التي تطورت في إبان الحرب الباردة من الحروب التقليدية التي ترتكز على جيوش الدول وتصبح استراتيجية في الحروب اللامتوازية في عصر العولمة وتتكاثر في إطار الحروب الجديدة التي تنشأ على أساس الهوية في الصراعات الأهلية وتزدهر في ظل الحروب الهجينة المركبة، وبهذا لا يمكن الحديث عن «حرب عادلة» فالحروب مأساوية وظالمة وتفتقر إلى العدالة سواء أكانت دينية أم علمانية ورغم أن الحروب الحديثة أشد هولا وأكثر تدميرا وأسلحتها أعمق فتكا إلا أن العمليات الانتحارية تثير في الإنسان المعاصر أثرا يتجاوز أشكال القتل المتعددة وتستوحذ على الاهتمام والتركيز الإعلامي، وإذا اقترن الموت بطقوس القداسة الدينية في مجتمعات دنيوية علمانية تخال أنهها خرجت من العالم المسحور تتنامى مشاعر الخوف والقلق والرعب، وإذا كانت منفذة العملية إمرأة تتضاعف المخاوف والهواجس وتتكاثر التفسيرات والتأويلات في البحث عن دوافع الفاعلين في محيط الثقافة والدين.
رغم تكاثر الدراسات والأبحاث التي تجتهد فهم دوافع العمليات الانتحارية وتحاول أن تجاوز القراءات النمطية إلا أن التفسيرات الدينية والثقافية لا تزال تتمتع بانتشار واسع بفعل الأثر «الاستشراقي» حين يتعلق الأمر بالعالم العربي والإسلامي، حيث يتعالى الحديث عن «ثقافة الموت» في دين الإسلام وثقافة وتاريخ العرب، بحيث تصبح العمليات الانتحارية التي ينفذها غير المسلمين حالة الاستثناء التي تؤكد القاعدة الأساس بإسلامية الظاهرة.
في سياق الجدل حول دوافع العمليات الاستشهادية يحاجج روبرت إيه. بيب في كتابه «الموت من أجل النصر: المنطق الاستراتيجي للإرهاب الانتحاري» أن العمليات الانتحارية لا ترتبط بالدين عموما والدين الإسلامي خصوصا، ويحاجج أنها استراتيجية عسكرية فعالة لمواجهة الاحتلال ويطالب أمريكا بتغيير نهج ما يسمى «الحرب على الإرهاب» حيث قام بتصنيف «العمليات الانتحارية الإرهابية» العالمية التي وقعت منذ عام 1980 إلى عام 2003 وتوصل إلى أن العدد الإجمالي كان 315 عملية، وعند توزيع هذا العدد جغرافيا وعرقيا وسياسيا وجد أن الأقل عددا هو ما قامت به منظمات أو حركات إسلامية، فمثلا 75 عملية كانت من نصيب «نمور التاميل» وهم هندوس وعلمانيون وهدفهم الاحتلال السيريلانكي، و36 عملية قام بها حزب الله وحركات وطنية علمانية في لبنان واستهدفت احتلالا أمريكيا وإسرائيليا ثم بعد ذلك متمردون عراقيون 2003 مجهولو الهوية واستهدفوا أميركا وحلفاءها، ثم القاعدة، والحركات الجهادية والوطنية في الشيشان، وحزب العمال الكردستاني، وحركات من السيخ.
يبدو أن ما توصل إليه روبرت بيب بخصوص نفي ربط العمليات الانتحارية بالدين والثقافة والإثنية والعرق مهما لكن لا يمكن نفي دور الدين والثقافة بالمطلق في دوافع العمليات الانتحارية، لكن الأهم أن تلك العمليات لا تشكل دائما استراتيجية فعالة في مواجهة الاحتلال بل إنها في أحيان كثيرة تعمل على تثبيت الاحتلال والتوسع في السيطرة على الأرض والتجكم بالسكان وتبرير الانتهاكات تحت ذريعة مكافحة «الإرهاب الانتحاري» كما يظهر ذلك في الحالة الفلسطينية والشيشانية وغيرها، ويمكن القول إن تاريخ العمليات الانتحارية التي تنفذها حركات دينية تنتمي إلى الديانة الإسلامية تكاثرت بعد الفترة التي درسها بيب في منطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم، وهي عمليات تعكس بالدرجة الأولى المضاعفات الخطيرة للحروب والنزاعات، ويُظهر تسلسل الأحداث المرتبط بهذه الظاهرة، ازدياد عنف هذا الأسلوب الدموي، وقدرته على تجاوز الحدود ونشر الرعب والفزع بوسائل مختلفة، فقد تدرجت من الأحزمة الناسفة إلى السيارات والشاحنات المفخخة وصولا إلى استخدام الطائرات المدنية، وقد تكاثرت العمليات الانتحارية التي بدأت في ثمانينات القرن الماضي حيث سُجل شن 4814 هجوما انتحاريا بين عامي 1981 ـــ 2015 في أكثر من 40 دولة، منها أفغانستان والعراق وإسرائيل والأراضي الفلسطينية وباكستان وسريلانكا، وتجاوزت أعداد ضحاياها 45 ألف شخص. وقد أصبحت العمليات الانتحارية التكتيك العسكري الأبرز مع تنظيم الدولة الإسلامية فبحسب احصائيات التنظيم فقد نفذ 1112 عملية انتحارية منوعة في العراق وسوريا عام 2016.
يشير تاريخ العمليات الانتحارية إلى أن الجهادية العالمية تأخرت باستدخالها وشرعنتها إلى منتصف عقد التسعينيات واستدخلت النساء مع بداية الألفية الجديدة، فقد تحفظت الجهادية العالمية من عبدالله عزام إلى بن لادن والظواهري على شرعية القيام بالعمليات الانتحارية إلى حد تحريمها ومنعها على كلا الجنسين وشددت خصوصا على أدوار المرأة التقليدية، ولذلك لم تشهد أفغانستان خلال التدخل الروسي 1979 ـــ 1989 أي عملية انتحارية، وعندما بدأت حركات جهادية وطنية باستدخالها والتوسع بها خلال تسعينيات القرن الماضي واستخدام النساء بدأت الجهادية العالمية تعيد النظر في شرعيتها.
عن الرأي