بقلم: عادل أبو هاشم
يصادف اليوم الذكرى السنوية الرابعة لرحيل السيدة المجاهدة " خنساء فلسطين " أم نضال فرحات ، هذه المجاهدة العظيمة التي قدمت أعز ما تملك من أجل الوطن ، ورحلت بعد حياة حافلة بالعطاء ربّت فيها أبناءها على موائد القرآن وحب الوطن .
نقف اليوم بإجلال وإكبار ، وننحن أمام ظاهرة عظيمة .!
نقف والكلمات تتلعثم في الأفواه عاجزة عن الكلام والوصف .!
كنا نفتخر حين نقرأ قصص الأجداد عن بطولاتهم وتضحياتهم ، وكم يعتصرنا الألم ونشعر بالأسى عندما تبتعد المسافات بيننا وبين الأجداد في وقت يخيم فيه علينا الصمت والخنوع حيال ما يجري في فلسطين ، فيمر شريط الذكريات في خيالنا يحمل بين طياته صورًا لخولة بنت الأزور والخنساء ونسيبة بنت كعب وأم سعد بن معاذ وغيرهم .
أننا أمام ظاهرة جديدة في مسيرة الشعب الفلسطيني الجهادية الممتدة على مدار أكثر من مائة عام . . ظاهرة " خنساوات فلسطين " التي أرست قواعدها المجاهدة العظيمة مريم محمد يوسف محيسن " فرحات " والشهيرة ب " أم نضال فرحات " النموذج الأبرز لجهاد الأم الفلسطينية المسلمة التي ما تركت التضحية لأن تكون خيالات وشعارات ، بل استطاعت أن تجعلها واقعاً يعيشه كل المراقبين لسيرة حياتها المجيدة .
هذه الأم الفلسطينية المجاهدة التي دفعت ولدها في ظلمات الليل لتجعل من جسده شعلة مضيئة على طريق تحرير فلسطين ، وهي التي أوت في بيتها القائد المجاهد الشهيد عماد عقل ، والتي كانت تستشعر أمومتها لكل مجاهد فلم تؤثر الصمت ، وظهرت في شريط الفيديو وهي تودع ابنها المجاهد وهي تعلم أنه لن يعود إليها .
هذه المرأة العظيمة مدرسة بأكملها . . بإيمانها . . بتواضعها . . بصبرها، وثباتها ورباطة جأشها . . إنها حجة على الأمة جميعها، وقفت شامخة بكل تواضع تدعو إلى الجهاد، تدعو الأمهات وتدعو شعب فلسطين وتدعو المسلمين جميعا.
ظهرت في الشريط وهي تعلم أن هذا قد يعرضها للأذى ، ولكن ظهورها أمر ضروري ليكشف عن حياة هذه الأمة وحيويتها ، و لتؤكد إن الأمة التي أنجبت الخنساء قادرة على أن تنجب خنساوات كثر في كل عصر طالما أن المحرك هو نفسه الذي حرك الأوائل ، ألا وهو الإيمان .
إن شريط الذكريات توقف ليتحول إلى حقيقية حين نقف أمام التضحيات الجسام التي تقدمها الأم الفلسطينية المؤمنة التي تتقبل استشهاد فلذة كبدها بالزغاريد وتحمد الله وتشكره على هذه النعمة الذي انعم عليها الله بها.
هكذا هي الأم الفلسطينية وهكذا عودتنا دائما أن تكون مصنعا للرجال ، أم نضال هي أم الأسير ، وهي أم الثلاثة شهداء محمد و نضال ورواد فرحات ، وقد قصف منزلها أربع مرات من قبل طائرات الاحتلال الإسرائيلي .
فباستشهاد المجاهد القسامي البطل رواد فتحي فرحات ( 17 عاماً ) في غارة إسرائيلية على سيارته في مدينة غزة يوم السبت 24/9/2005م، تكون "خنساء فلسطين" قد قدمت ثلاثة من أبناءها المجاهدين في سبيل الله فداءً للوطن وللقضية.
لم تجزع أم نضال فرحات عند سماعها بنبأ استشهاد ابنها "رواد"، بل قالت بصوت ملؤه الثبات أنها مستعدة لتقديم كل أبنائها للمقاومة.
عندما تسمع عنها يخيل إليك أنها أتت من زمان غير زماننا، أو أن عاطفة الأمومة نُزعت من قلبها ، وغُرس بدلا منها حب المقاومة والوطن ، كيف بها تطلب من ابنها إيواء مطارَدين لجيش الاحتلال في بيتها رغم معرفتها أنها يمكن أن تفقد أولادها الستة لهذا السبب .؟!
وكيف تدفع بابنها "محمد" ليتسابق في نيل شرف مقاومة جيش الاحتلال، وتوصيه بالثبات حتى يلقى ربه شهيداً .؟!
مريم محمد فرحات " أم نضال فرحات " نذرت أبناءها لله ، فقالت لهم ذات يوم : محمد.. نضال.. مؤمن.. حسام .. وسام.. رواد.. أرضكم مدنسة وأنتم تنظرون ، أريدكم منتصرين أو على الأعناق محمولين .!
استجاب الأبناء البررة للنداء على الفور ، لأنهم بكتاب ربهم مؤمنون، وبسنة نبيهم متمسكون .
وسام دخل ظلمة السجون الصهيونية بعد أن ضاق به المحتلون ليقضى 11 عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي ، أما محمد ونضال ورواد فقالوا : "إنا لفلسطين منتقمون"، فكان نصيبهم أنهم في حواصل طير خضر يسرحون ويمرحون إن شاء الله .
لقد سجلت المجاهدة العظيمة أم نضال فرحات أروع الصور لجهاد المرأة الفلسطينية، وضربت مثلا بدفعها ابنها محمد للمشاركة في اقتحام مستوطنة صهيونية وقتل العشرات من مستوطنيها رغم صغر سنه، بعد أن نمّت الجرأة في قلبه وهي تقول له : " أريدك أن تقاتل بالسلاح لا بالحجر " .!
لذلك سرعان ما فكر في البحث عن عمل ليدخر منه ثمن السلاح الذي لا تستطيع هذه الأسرة أن توفره لولدها، حثته أمه على العمل والكد حتى يستطيع أن يمتلك السلاح ، ويحافظ عليه لأنه عرف مدى صعوبة الحصول عليه.
تقول أم نضال :
" كان من أجمل أيام حياتي عندما امتلك محمد السلاح فأحضره لي ليسعد قلبي به ، ويؤكد لي أنه أصبح رجلا يمكن أن يسير في طريق الجهاد".
لم تبدأ فصول مقارعة السيدة أم نضال فرحات للعدو الصهيوني بدفع ابنها "محمد" للجهاد، بل في عام 1992م حيث آوت في بيتها المتواضع المناضل الذي وصفه الإسرائيليون ب " ذي الأرواح السبعة ". . إنه القائد المجاهد البطل "عماد عقل" قائد الجناح العسكري لحركة "حماس" الذي قال عبارته المشهورة :
"إن قتل الإسرائيليين عبادة أتقرب بها إلى الله" ، والذي استشهد في منزلها يوم الأربعاء 24/11/1993م بعد أن تحول إلى جبهة حرب بينه وبين ما يزيد عن مائتي جندي صهيوني قبل اقتحامهم المنزل واستشهاد عماد عقل .
وليس غريبا على مثل هذه الأم أن تتمنى أن يرزق الله جميع أولادها الشهادة وحب الاستشهاد ليسيروا على درب عقل ، وهي القائلة :
" من يحب الله والوطن فلا يتوان عن تقديم أبنائه فداء له، والأم التي تحب ولدها تطلب له النجاة في الدنيا والآخرة وتدفعه للجهاد ولا تجزع عند فوزه بها، ولا تشمت الأعداء بشعبنا بدموعها على شاشات التلفزة ".
"تزحزح قليلاً يا بني، ضع يدك على كتفي ، دعني أُقبلك قبلة الوداع ، هيا التقط صورتك أيها المصور وأنا أزف ولدي إلى الشهادة ".!
صورة تكاد تنبض فيها الحياة وتدور بينك وبينها حوارات طويلة . . هكذا كانت اللقطة التاريخية التي سجلتها أم نضال مع ابنها محمد وهي تزفه إلى الشهادة أو في مفهوم البعض إلى الموت .
لقد سنّت أم نضال سنة حسنة جديدة ربما في الواقع هي قديمة بقدم تاريخ الأرض والتقطت لها صورة مع محمد في شرائط الفيديو المعتادة التي كانت تسجل مع الشهيد قبل عمليته؛ فالشهيد هذه المرة لم يكن وحيدًا، بل كان معه والدته.
الصورة الرمز التي تخفي وراءها جيشًا من الأمهات والآباء الصابرين . . هي ولا شك نقلة نوعية في مشاعر الأمومة، فالكثير يتحدث عن نقلة نوعية في أساليب المقاومة في انتفاضة الأقصى ، إلا أن أحدًا لم يذكر مع تلك الأسلحة هذه النقلة الجديدة التي سجلت براءتها أم نضال ومثيلاتها . . والتي أضافت قائلة :
" ابني الشهيد هو خير من يبرني . . فهو الذي سيشفع لي بشهادته . . من كانت تحب ولدها فلتعطه أغلى ما تستطيع . . وأغلى ما يمكن أن تقدمه هو الجنة " .
و كانت هذه الكلمات هي الإمضاء الذي سطرته على طرف صورتها .
وفي يوم الخميس السابع من شهر آذار "مارس" عام 2002م خرج ألاستشهادي المجاهد البطل محمد فتحي رباح فرحات حاملا سلاحه رغم سنه الصغير ( 19 عاماً ) ومضى في رحلته الأخيرة بعد أن ودع والدته الذي تلقى منها درسا في الثبات والإقدام ، وتمكن من اجتياز كافة الإجراءات الأمنية والحواجز والبوابات الإلكترونية الصهيونية إلى أن دخل مستوطنة " عتصمونا " ومكث فيها زهاء عشر ساعات متواصلة دون خوف ، وبقلبه الصغير الشجاع انتظر تجمع أكبر عدد من العسكريين الصهاينة ، فخرج من مربضه كالأسد ليفاجأهم ويقتل سبعة منهم ويجرح العشرات من طلبة الأكاديمية العسكرية في مستوطنة " عتصمونا " الملعونة.
لقد شكلت العملية الاستشهادية النوعية مفخرة لكل إنسان فلسطيني ، وأثبتت القدرات التي تمتع بها هذا الشبل الفلسطيني الذي تمكن من تحقيق ما لم تحققه فرق عسكرية مدربة في الجيوش ، مؤكدًا أن ما يتبجح به هذا العدو من قوة ما هي إلا أوهام واهية يستطيع الفلسطيني بإرادته وتصميمه أن يجعلها سرابا .
لم يدخل محمد كلية عسكرية يتعلم فيها فنون القتال واقتحام المواقع بل تعلم على يد والدته المجاهدة مريم فرحات ( أم نضال ) خنساء فلسطين دروسا في التضحية والإقدام والثبات .
ودع محمد والدته التي علمت أن ابنها في طريقه للشهادة ، وبدون دموع قالت أم نضال :
" لو كنت أعرف كيف أزغرد فرحا بخبر استشهاد ابني لفعلت ".!!
لم تنته قصة المجاهدة العظيمة أم نضال فرحات " خنساء فلسطين " بعد :
فقد استشهد القائد المجاهد البطل نضال فتحي رباح فرحات " أبو عماد " أحد القادة الميدانيين لكتائب الشهيد عز الدين القسام والمهندس الأول لصواريخ القسام، وهو ابن خنساء فلسطين "أم نضال فرحات" عصر يوم الأحد 16/2/2003م ، عندما تسلم نضال الجزء الثاني من طائرة صغيرة ضمن استعدادات الكتائب لتطوير عملياتها ضد قوات الاحتلال وانطلق إلى منزل يقع في حي الزيتون بمدينة غزة .
وكان نضال قد تسلم الجزء الأول من الطائرة قبل فترة بسلام من قبل مورد للسلاح داخل فلسطين المحتلة عام 1948م ، ورغم الشكوك التي ساورت نضال حول مورد الطائرة نتيجة أحداث سابقة لكنه مضى بسيارته لفحصها ، لحظات وحدث الانفجار بفعل عبوة ناسفة متطورة زرعت فيها يبدو أنها تلقت إشارات من طائرة مراقبة صهيونية تجوب سماء المنطقة.
أم نضال فرحات:
نشعر أولا بالفخر.. ونشعر ثانية بالخجل حين نقف أمامك، أمام أم حنون قامت بعمل عجزت عنه أعتى الرجال حين أبعدوا أبنائهم عن ساحة الجهاد والفوز بالجنة ليستمتعوا بصحبتهم.
نحن بحاجة إلى مدرستك لنتعلم منها دروس التضحية والثبات وقوة الإيمان ونستخلص منها العبر بان الآجال مقدرة من عند الله وأن الفوز بالشهادة هو الانتصار الحقيقي والمنتظر.
كنت مثال الأم الحنونة وكنت نموذج الأم المعطاء والمحسوس والمجبول بدم فلذات الأكباد.
ربما قدمت أبنائك قربانا لشيء عظيم، وفقدتيهم في يوم عظيم، ولكن لا تنسي أيتها الأم الحنونة بان كل أبناء فلسطين هم أبناؤك، وما أروع هذا الشرف الذي سيتباهى به كل أبناء فلسطين.
أم نضال فرحات:
ليتقبل الله جهادك وتضحيتك وصبرك و استشهادك ، ويتقبل أبنائك الثلاثة محمد و نضال و رواد مع النبيين و الصديقين والشهداء و الصالحين ، ويجمعك بهم و بجميع الشهداء الأبطال الأبرار في مقعد صدق عند مليك مقتدر .