بـقـلم: عـادل أبو هـاشـم
شهيدنا باسل محمود الأعـرج ..
ليس من السهل أن يكتب المرء عن باسل الأعـرج " أبا محمود "، فالرجل ليس شهيدًا وحسب ، إنه المثقف والأديب والمجاهد ، وهو فوق ذلك يتدفق شفافية ويفيض أحاسيس .
كل كتابة عنه ستكون ناقصة ، لأن قضيته لم تكتمل بعد .
ذلك أن باسل لم يكن في حياته وفي التـزامه مجرد شخص اختار طريق الجهاد والنضال والمقاومة ، بل كان إلى جانب ذلك نموذجـًا بارزًا لجيل فلسطيني كامل هو جيل انـتفاضة الأقصى ، انـتفاضة الحرية والاستقلال ، ومن خلال تمثيله لهذا الجيل ، ومن خلال تعبيره عنه بالبندقية المقاتلة والكلمة الحرة الأبية ، اكتسب قيمته كمناضل وكمعلم وكرمز لهذا الجيل .
أن يستشهد باسل الأعـرج فهذا أمر طبيعي ، فلقد استشهد في كل لحظة من لحظات حياته القصيرة زمنيـًا ، الطويلة جهادًا ونضالا ، فسيرة نضاله من أجل وطنه وشعبه وقضيته العادلة ، كان الاستشهاد نهايتها الطبيعية ، وسيرة نضاله هي في الواقع حياته العملية كلها .
فقد طلب " أبا محمود " الاستشهاد لنفسه ، وعمل له ، وسعى إليه ، لأنه آمن به .
آمن بأن العمل لفلسطين لا حدود له ، وأن فجر النصر آت لا محالة رغم الظلام الحالك الذي يلف الأمة ، وأن الدم والمشاركة في الجهاد ضد المحتل لا تكون من بعيد ، وأن هناك طريقـًا آخر غير طريق الخنوع والاستسلام ، أو القبول بالفتات أو انـتظار ما يسمح به العدو الإسرائيلي بالتـنازل عنه ألا وهو طريق الجهاد والاستشهاد .
لقد آمن باسل الأعـرج أن الكتابة الثورية (وهي هوايته وقناعته ومعاناته في آن واحد) لا معنى ولا أثر لها إذا لم تتجسد بالممارسة والسلوك اليومي ، وأن مقاومة المحتل لا تتحمل المواقف الوسط ، ولا المهادنة ، ولا التأجيل ، ولا الاستراحة ، وأن الكلمة الثائرة لا تعرف المواربة ، ولا الدبلوماسية ، ولا التلفيق ، ولا الاصطناع .
لقد كان في باسل الأعـرج من صدق المجاهد وجرأته ما يعجز الواقع عن تحمله ، فيثير فيه بكلماته وأعماله موجات متلاحقة من التأزم فيجعل هذا الواقع قلقـًا مستـنفرًا يبحث عن الحقيقة بكل ما فيها من مرارة ، وعن الخلاص بكل ما فيه من تضحيات .
كان باسل صورة من صور الحياة النابضة بالمقاومة والوطنية والطموح الخلاق ، يرنو إلى العلا في كل مجال من مجالاته ، ويتقن فن الجهاد والمقاومة ويحفظ دروسها عن ظهر قلب ، ويلقنها لأبناء شعبه البطل .
لقد كان تلميذًا وأستاذا في آن واحد .
فقد عظم الكلمة في فكره وعقيدته ، وقدر العمل في نضاله وكفاحه اليومي ، وسبق الآخرين بنظره الثاقب ، فكان فارسـًا يجيد السباق في كل ميدان من ميادين الجهاد والنضال والعمل الوطني .
كان باسل الأعـرج صاحب حجة قوية وعقل منظم وذهن وقاد تتدافع الأفكار في رأسه كأمواج البحر تتلاطم بعنف لتعود مرة أخرى إلى الأعماق في حركة مد وجزر واعية مستمرة لا تـنقطع أبدًا .
ويبدو أن العدو الصهيوني قد سبقنا بتقييم أهمية باسل الأعـرج في حياته ، حتى أخذنا الآن ندرك حقيقة عظمته بعد استشهاده ، فالعدو أدرك أن باسل كان عاملا رئيسيـًا في جعل قتاله محببـًا للجماهير ، مما يعني أن بقائه سيكون من العوامل المساعدة على ديمومة الانـتفاضة ، واستعداد الجماهير ورغبتها في أن تمدها بالمزيد من المجاهدين .
كان العدو الإسرائيلي يدرك أن دور باسل الأعـرج في كونه مثقفاً مقاتلاً في ملحمة الانـتفاضة ، من شأنه أن يرسخ في وجدان الجماهير ديمومة الانـتفاضة وحتمية انـتصارها .
من الصعب أن أرثي الشهيد باسل الأعـرج" أبا محمود " بالكلمة ، ومن الصعب أن أرثيه بالدمع الساخن لأن مآقينا جفت منذ عشرات السنين .
جفت مآقينا منذ أن وطأت أول قدم صهيونية أرض وطننا الحبيب .
جفت منذ أن سقط أول شهيد فلسطيني برصاص العدو الصهيوني .
جفت منذ أن قطع عدونا أول شجرة زيتون من أرضنا المباركة .
فلن نرثي بعد اليوم شهدائنا ، بل سنثأر لهم من قتلتهم ، من عدونا الأبدي والأزلي ، سارق أرضنا وأحلام طفولتـنا .
عاش باسل الأعـرج حياة قصيرة ، ولكنها عريضة كما يقولون ، ولم يكن ابنـًا بارًا لأهله وعائلته وشعبه ووطنه بالمفهوم الأخلاقي للكلمة فحسب ، ولكنه كان ابنـًا بارًا لشعبه ووطنه بالمفهوم الإبداعي للكلمة أيضـًا .
لقد علمنا " أبا محمود " دروسـًا كثيرة في الانسجام والصدق والاحترام من أجل قضيتـنا العادلة ، وأول ما علمنا إياه هو أن الفلسطيني يفقد ذاته وحضوره الإنساني في العالم والكون إذا كف عن أن يكون فلسطينيـًا .
ستبقى كل كتابة عن باسل الأعـرج ناقصة ، لأن قضيته هي قضية الشعب الفلسطيني كله ، هي قضية الجيل الذي يصنع المسيرة ، وهي قضية لم تكتمل بعد .
لقد كان باسل الأعـرج في حياته شعلة مضيئة في زمن الظلام العربي الدامس ، فرسم لنا الطريق ، وأثبت بدمائه الطاهرة أن الشعب الذي يزرع أرضه بالتضحية لا بد وأن يحصد النصر .
.
لقد استشهد باسل الأعـرج وتركنا فجأة ، ولكنها ليست مفاجأة على الإطلاق أن يستشهد "أبا محمود" ، فالذي يعيش حياته كلها مناضلا تكون الشهادة نصب عينيه دائمـًا ، وحين تأتي ، تأتي كجزء من العمل ، تأتي كرمز لهذا العمل ، تمامـًا مثل الرمز الذي حمله معه في كل لحظة من لحظات الانـتفاضة ، كل ما فعله رامي أنه أكمل الرمز حتى النهاية .
فهنيئـًا لك الشهادة ووسامها يا باسل ، ونم قرير العين ، فإن رحلت عنا فسينبت فينا ألف باسل الأعـرج نجوم في سماء الوطن وعنوان الأمل القادم ، ولتظل ذكراك أنشودة فلسطينية متجددة على لسان الأطفال والأمهات ، يزرعنها في الأبناء جيلا بعد جيل حتى تحين ساعة النصر بإذن الله .
باسل الأعـرج :
ونحن نستعيد مسيرة جهادك ونضالك وتضحياتك واستشهادك ، ونحن نغمض أجفاننا على طيفك ، ونضمك إلى جوانحنا ، نكتب لعائلنك ، وللحزانى من شعبك وأهلك وإخوانك وأصدقائك ما كنت أنت ستقوله لهم جميعـًا في مثل هذا المجال ، حول استشهاد مجاهد عنيد من مجاهدي شعبنا البطل .
اليوم عرسك "أبا محمود " في جنة الرحمن ..
في مقعد صدق عند ملك مقتدر ..
اليوم يستقبلك الشهداء الأبرار .. وحسن أولئك رفيقـًا ..
هذا هو العرس الذي لا ينـتهي .
في ساحة لا تـنتهي .
في ليلة لا تـنتهي ..
هذا هو العرس الفلسطينيُ .
لا يصل الحبيبُ إلى الحبيبْ .
إلا شهيدًا أو شريدًا .