محبطون نحن ومأزومون، شاكون متبرّمون
متألمون، تتغلغل في نفوسنا حالة الحزن الموجعة، وتحاصرنا الهموم، ونهرب من ليل إلى
نهار ومن نهار إلى ليل، علّنا نجد بارقة أمل، فلا نعود إلّا بيأس جديد، وأخبار
تصرع مسامعنا عن دول عربية مُزّقت شرّ ممزّق، واقتصادات متهالكة، وفساد متمدّد،
وأمنيات متهاوية، وأمان متبدّد، وشباب يركب البحر يفرّ من الأوطان إلى أحضان
الأعداء يبحث عن أيّة فرصة للحياة فتبتلعه الأمواج، ووطن سليب أصبح حلم استعادته
في الغيب السحيق البعيد، والمسجد الأقصى صار مرتعاً لشلايا العابرين العازمين على
التقسيم ثمّ التهويد.
وينكفئ أحدنا إلى ذاته، يلوك أحزانه،
ويجترّ ذكرياته، ويستعيد يوم ميلاده، ويقف على الأعراف بين أطلال عام مضى، وإطلالة
شمس عام جديد، يستروح الأمل، وبستقطر الفرح فيعزّ هذا وذاك، ويلتفت حوله ليلتقط
المنى فتغشاه سحائب من قلق مُقضّ، وألم مُمضّ، وشجى يبعث الشجى، في مشاهد ذوتْ
فيها الروح وانزوتْ، وسيطر عليها الوجد والأسى.
ثمّ نلقاها....
حمامة الأيك تقف عالياً على نافذة سجن
أبي فراس الحمداني، تسجع بكاءً يقطّع نياط القلب، وتستعيد هديل الفقد العظيم
القديم، ثمّ تكون نبتةً بريةً فيروزيةً في جبال لبنان الشمّاء، تتغذى على الرحيق
والندى، وتقول لكلّ مهموم حزين: أنا صوت حزنك، ورسول ألمك، وأليف روحك، وتوأم
همّك، ودفتر أحلامك، وتطوف مع شمس العروبة من بوابة العراق إلى جبال الأطلس تلامس
آثار سنابك حصان عقبة بن نافع، ومن بوابة حلب الشهباء إلى مضيق باب المندب، تصدح
بالفرح الشريد الفريد، وتَشرق بالحزن المقيم المديد، وتلاحقها قلوبنا المتعبة،
وأرواحنا المنهكة، في ائتلاف الشجن الذي يوحّد ولا يفرّق، فكل حزين للحزين أليف.
تتلقفها أرواحنا بلهفة: بعزة نفسها،
بإبائها وكبريائها، بشموخها الملكي واتزانها، بهيبتها، بجدّيتها لم تستطع نشوة
المجد على المسرح ارتشاف بسمتها، بحسن طلتها، بملامح الزبّاء في طلعتها ....إلخ.
ويأخذنا صوتها إلى القصيّ البعيد،
ينتزعنا من نفوسنا، ويحلّق بنا إلى عوالم هائمة فاضلة حالمة نائية عن مرارة واقعنا
.
غنّت للقدس، لمساجدها وكنائسها
وشوارعها العتيقة، للأردن، لمكة، لبيروت، لدمشق، للعرب كل العرب. للجنوب غنّت،
للشمال، للحور العتيق، للثلج على صنّين، لجبل الشيخ، للحمامة الطائرة، بين دُمّر
والهامة، للّيل، للفجر، لخبطة بساطير العسكر، لحنّا، لشادي، لجلّنار، للجبل
البعيد، للرعاة الذين شرّقوا، للبحر الكبير، للسماء البعيدة، لستّها الختيارة،
للطاحونة، لأسمر الحارة........ إلخ.
غنّت آلامها ومتاعبها الأسرية وحبها
الضائع وفراق أحبابها، غنّت فأشجتْ، غنّت فأدمتْ القلوب، غنّت وأبكتْ.
دارت بنا كثيراً، ودرنا معها طويلاً
.... نسينا أسامينا لكننا ما نسينا اسمها يوماً.
وكذلك غنّت لورق أيلول الأصفر، الذي
زادنا وجداً على وجد، فهو يبعث فينا كآبتنا ويفجّر من أعماقنا أحزاننا .... غابت
الخضرة اليانعة، وغلبت الصفرة العليلة، وتساقطت أوراق الشجر كما تساقطت السنوات من
كتاب العمر.
لعلّ جوزيف حرب عانى بعض ما نعاني
عندما كتب كلمات هذه الأغنية التي لحّنها أولاً ابن فيروز زياد الرحباني، فلم
يَرُق اللحن لصاحبة الذائقة الراقية، ولم يرْقَ إلى مستوى هياج مشاعرها، فاستبْقتْ
لحن زياد لأغنية أخرى" زعلي طول أنا وياك"، ودفعتْ بورق أيلول إلى
فيلمون وهبة، العبقري الذي لم يلقَ شهرة تليق بفنه المرموق. وعلى يديه كان هذا
اللحن الذي يثوّر كلّ الأوجاع في كلّ قلب رقيق.
ورقٌ أصفر يفارق الغصن الرطيب،
ويتهاوى تحت الشبابيك، يشبه الذهب المشغول بيد صانع حاذق، ويذكّر بالحبيب الذي خطف
القلب، واختطفه الغياب، وطال الانتظار، ليرجع أيلول وهو بعيد، في ليلة حزينة قد
غاب فيها قمرها، وغامت العيون بدموع سهدها وسهرها، وتسيّد المشهد بكاء مرير مع
بواكير المطر، وذكرى أليمة مقيمة، ومخاوف من نسيان الغائب للأليف، وعدم عودته
أوائل الخريف .... فتنبعث أمنيات عنيفة بأن تنسى أشجار الحور الرياح الأليفة، ويغيب
القمر المؤنس لوحشة المنتظر، ويطول الليل ويطول، ويرسم السطر الأخير نهاية الحكاية
المفجعة، فيتحوّل الحبيب والحبيبة إلى مجرّد غريب وغريبة!!!
وتلك هي الحقيقة المرّة الأكيدة ...
إنها الفراق.
"اشهدي النور والظلال وانظري دورة الزمان
كــلّ شـــيء إلى زوال ليـــــــس للملتقى أمـان
لا تسأليني فكم أهل الهوى سألوا هل يَصدق الدهر فيما يرسم الأملُ
لا تسأليني فإني خائــــــف
وَجِلُ لا ينقص البدر إلّا
حيــــــن يكتملُ" !!!!