لعل ابرز ما يميز حملات الانتخابات
الرئاسية الفرنسية الحالية، هو تبني افكار اليمين المتطرف طمعا في كسب اصوات هذا
التيار العنصري الذي يتسم بالتعصب القومي والديني ويستهدف مهاجمة الاسلام
والمسلمين والاقليات والمهاجرين وزرع بذور الفتنة والتفرقة والخوف في المجتمع
الفرنسي بحجة ان الهوية الفرنسية مهددة من قبل هذه المكونات المجتمعية غير
الفرنسية من خلال ما يسمى بنظرية الاستبدال الكبير التي يروج لها اليمين المتطرف ،
الذي يرى بانها تستهدف استبدال الفرنسيين والاوروبيين بافارقة وشرق اوسطيين
غالبيتهم من المسلمين . وبدا ان هناك انعطافة او هجرة من قبل مختلف الاطراف
والتيارات الفرنسية الوسطية واليسارية واليمينية نحو هذا الفكر المتطرف ، بما يمكن
وصفه بالانقلاب على منظومة فرنسا القيمية والاخلاقية التي ترسخت منذ ثورتها
المشهورة التي مثلت تحولا قيميا في تاريخ البشرية ، مجسدة بشعار الحرية والمساواة
والاخوة. لتتحول من منارة للحرية والديمقراطية وحقوق الانسان الى وكر للعنصرية
والكراهية والشعبوية والفكر المتطرف ، الذي يشتد الرهان عليه بين المرشحين
للانتخابات الرئاسية لزيادة فرصهم بالفوز . في اشارة الى توفر بيئة حاضنة له لدرجة
الاعتماد عليه في حسم نتائج هذه الانتخابات ، بدلا من محاربته والتصدي له حفاظا
على هوية الدولة السياسية وتقاليدها الديمقراطية والليبرالية المستمدة من مبادئ
الثورة الفرنسية .
ومما يؤكد وجود استجابة او ارضية
فرنسية شعبية لهذا الفكر المتطرف ، تكرار المشهد الانتخابي بهذه الصورة الخادشة
للتقاليد الديمقراطية والليبرالية الفرنسية للمرة الثالثة منذ عام 2002 عندما تمكن
جاك شيراك المحافظ من هزيمة مؤسس الجبهة الوطنية جان ماري لوبان والد مارين لوبان
التي هزمها مرشح الوسط ايمانويل ماكرون في الانتخابات السابقة ٢٠١٧ ، ليتكرر سيناريو
انتقالهما الى الجولة الثانية ايضا في الانتخابات الحالية التي سيتقرر مصيرها في
الرابع والعشرين من الشهر الحالي في ظل عدم تمكن أي من مرشحي الأحزاب التقليدية من
اليمين واليسار من الوصول الى هذه الجولة في الانتخابات السابقة والحالية ، وذلك
لأول مرة منذ تأسيس الجمهورية الخامسة على يد شارل ديغول 1958 . مما يعني غياب
الثنائية القطبية الحزبية التقليدية عن المشهد الانتخابي منذ عام ٢٠١٧ .
ولعل ما يلفت النظر في المشهد
الانتخابي الفرنسي ان حسمه بات يعتمد على تبني الافكار العنصرية والمتطرفة ، بدلا
من تبني وطرح الافكار والبرامج الاقتصادية
والاجتماعية وغيرها ، لدرجة انتقال هذه العدوى الى الرئيس ماكرون نفسه من خلال
مواقفه المعادية للاسلام، عندما دافع عن قرار صحيفة شارلي ابدو الفرنسية بإعادة
نشر صور مسيئة للنبي محمد صل الله عليه وسلم بحجة حرية التعبير .. اضافة الى موقفه
المعادي للاسلام والتضييق على المسلمين في بلاده ، كما جاء في خطابه عام ٢٠٢٠ الذي
اعلن فيه ان الاسلام ديانة تعاني ازمة ، مما أشعل موجات من الغضب والاحتجاج ودعوات
لمقاطعة المنتجات الفرنسية في أنحاء العالم الإسلامي.
ولما كان مثل هذا التحول .. وهذا
السقوط المدوي للمنظومة القيمية والاخلاقية ، ليس مقتصرا على فرنسا وحدها ، بل شمل
اقطارا اوروبية وغربية اخرى ، كما عكسته نتائج الانتخابات الرئاسية والتشريعية
التي جرت مؤخرا في بعض هذه الاقطار في المرحلة الاولى تحديدا ، كالنمسا
وهولندا والمانيا وغيرها ، فان هذا من شأنه
وضع المشهد السياسي الديمقراطي الغربي برمته ، الذي مثل يوما نموذجا يحتذى في
الوحدة والحرية والاندماج ، امام احتمال ان يتسبب في إشعال الصراعات الحضارية
والقومية والدينية في الساحة العالمية .