لكل موضة زمن تنتشر فيه ثم تزول لتصبح
من مخلفات الماضي التي نستذكرها فنضحك أو ينتابنا الحنين لأيامها الخوالي، إلا
موضة كل زمان المتعلقة بطرح الأفكار والاقتراحات عن عملية الإصلاح الشامل وإعلاء
مبدأ سيادة القانون بوصف ذلك من أبجديات مسيرة التحول نحو الدولة المدنية
الديمقراطية التي أمضينا عقوداً نتحدث عنها دون أن نشرع بالعمل الفعلي للوصول
إليها. سيادة القانون مبدأ راسخ يشكل عماد العقد الاجتماعي للدول المتحضرة حيث رسم
ونظم فيها علاقة الأفراد بالسلطة على أسس من المساواة والعدالة والمساءلة، لذلك
أفردت الأوراق النقاشية الملكية لهذا المبدأ ورقةً خاصةً احتفل بها الجميع في
طليعتهم تيار الصقور الذي يعد حجر عثرة في وجه مسيرة الإصلاح وسيادة القانون
للمحافظة على منظومة المكتسبات ومراكز القوى التي تأسست على قواعد شعبوية قوامها
تحقيق مصالح فردية وجهوية من شأنها مراكمة رصيد يثبت أركانهم في مواقعهم ويدفع بهم
دائماً إلى الواجهة في المعارك الانتخابية والفوز بنصيب وافر من كعكة كرنفالات
تشكيل الحكومات.
ازدواجية المعايير لدى مجموعة وازنة من
قادة الرأي والحلبة السياسية والحراك الشعبي الذين يطالبون بالإصلاح والتغيير،
كانت من القضايا الحاضرة في أكثر من مناسبة على لسان الملك الذي ألمح ثم صرح
أن ثمة من ينادي بالمساءلة ومكافحة الفساد بسقف ارتفاعه ينبغي أن لا يتجاوز ما
يستظل به هو أو جماعته، الأمر الذي أكدته أحداث ومناسبات عدة ظهر فيها عدد لا
يستهان به من منتقدي الأداء الحكومي ممن يؤمنون بمبدأ سيادة القانون أول النهار
ويكفرون به في آخره؛ وهم يتشفعون لإنقاذ قريب أو صديق متهم بالفساد.
في الاتجاه نفسه، لا تجد بعض الشخصيات
النخبوية المثقفة التي تولت إدارة ملفات حيوية واعتلت منابر فكرية وأكاديمية وخطبت
بحماسة وكتبت بشراسة عن وجوب تغليب سيادة القانون على العادات والتقاليد والأعراف
التي تناقضه ولا تنسجم وقيم الأمم المتحضرة التي تعلي القانون والقضاء على ما
دونهما؛ غضاضةً في تأييد مطالب عرفية تنتهك مبدأ شخصية العقوبة ومبادئ العدالة
الجنائية وتكرس نزعة الانتقام والأخذ بالثأر والإفتراءات على القانون والقضاء
وتهديد مؤسسات الدولة إن لم تلبَ مطالبهم الخارجة عن سياق الدستور والقانون.
على المنوال نفسه، أثارت تصريحات رئيس
مجلس الأعيان في إحدى اللقاءات الحوارية مع منظمات وفعاليات مجتمعية وسياسية في
خضم عملية التمهيد لمراجعة حزمة التشريعات الناظمة للحياة السياسية حفيظة عدد من
المهتمين بالشأن العام، حيث أشار الرئيس إلى الاعتبارات الجهوية والعشائرية
وخصوصية المجتمع الأردني وما تشغله من مساحات ينبغي أخذها في الحسبان في أي عملية
إصلاح مزمع الشروع بها. رأى كثيرون في هذه التصريحات سقفاً وشرطاً مسبقاً لأي
تعديل على قوانين الانتخابات والأحزاب وتشكيل الحكومات سواءً كانت تقليدية أو
برلمانية، وهذا التحليل على وجاهته لا ينفي تجذر الواقع الذي أشار إليه رئيس
المجلس، لذلك وعوداً على بدء، فإن مراجعة العقد الاجتماعي القائم وإعادة تشكيله
يبدو متطلباً أساسياً لا يمكن القفز فوقه إلى تعديل تشريعي سطحي، فعلى الأردنيين
الاختيار ما بين عقد اجتماعي جديد قوامه المبادئ الديمقراطية الحقة وما تفرزه من
قوانين انتخابات تعكس التمثيل الفعلي غير الجهوي أو العشائري وإعلاء مبدأ سيادة
القانون التي توجب المسائلة والمحاسبة على الجميع دون محاباة، أو التماهي مع العقد
الاجتماعي الراهن المشوه القائم على الاعتبارات التي تحدث عنها الرئيس ليبقى الوضع
على ما هو عليه.
إذا كان النبي نوح أمضى ألف سنة إلا
قليلاً وهو يدعو قومه إلى مناقشة دعوته والإيمان برسالته الإصلاحية فلم يؤمن معه
إلا قليل، فهل يمكن لعملية مراجعة دستور أو قانون تتم في بضع شهور إقناع أو إخضاع
الصقور لواقع جديد قد يفضي إلى تنحيتهم عن صدارة المشهد؟ الأمل منعقد على جيل جديد
ينشئ عقداً اجتماعياً قوامه احترام الحق وتقديس العدالة والمساواة ونبذ العصبية
والعنصرية والأعراف التي تعلي نزعات التشفي والإنتقام على الانصياع لحكم
القانون، فلا أمل في عقول شاخت وقلوب شابت وقد وقر فيها عقيدة فحواها: "إن
كان للقانون سيادة فنحن فوقه سادة".