بقلم: د هايل ودعان الدعجة
رغم الظروف المالية والاقتصادية والمعيشية الصعبة والقاسية التي يعاني منها بلدنا بصورة غير مسبوقة (التي تسبب في جزء منها لصوص المال العام واستغلال المنصب الوظيفي ) ، الا ان مسلسل الفساد والتجاوزات والمخالفات المالية ( والإدارية ) ما يزال مستمرا ، وعلى ايدي أناس من أبناء الوطن مع كل أسف يفترض انهم يحملون هويته وجنسيته ، وان أقل ما يمكن ان يفعلوه في ظل هذه الظروف الاستثنائية ، الشعور مع الوطن والوقوف الى جانبه عبر التعاطي المسؤول مع المال العام ومراعاة المصلحة العامة في وظائفهم ومن خلال تواجدهم في مواقع المسؤولية التي وصلوها من بوابة المواطنة . إذ لا يعقل ان يتم توظيف الوزارات والدوائر والمؤسسات العامة والرسمية التي نديرها ونعمل بها في تحقيق مصالحنا الضيقة والشخصية ، وان يتم التعامل معها كمزارع خاصة . ولنا في تقارير ديوان المحاسبة الذي يمثل جهازا رقابيا رسميا على إيرادات الدولة ونفقاتها والتأكد من سلامة استخدامها بصورة مشروعة وقانونية ، وما تنطوي عليه هذه التقارير من تجاوزات وممارسات مالية غير مسؤولة بحق المال العام ، وبصورة متكررة ومستمرة ، أكبر دافع لندق ناقوس الخطر بضرورة تكثيف الإجراءات الرقابية وتفعيلها ، وبما يضمن وضع حد لهذه الجرائم المالية والإدارية التي ترتكب بوضح النهار ، وبأساليب احتيالية رخيصة من قبل بعض اصحاب النفوس المريضة الذين لا يتقوا الله بهذا الوطن .
ومن منطلق ما يتحلى به ديوان المحاسبة من صدقية وشفافية وموضوعية ، فمن باب أولى ان تبادر الحكومة ومن تلقاء نفسها الى اتخاذ الإجراءات الرادعة بحق هؤلاء المخالفين ، وتحويلهم الى الجهات القضائية المختصة ، ووضع مجلس النواب بصورة الإجراءات المتخذة بحقهم ، بدلا او قبل ان تحول هذه التقارير له على أعتبار ان هذه المخالفات تقع في دائرة اختصاصها ومسؤوليتها . كذلك فان هيئة النزاهة ومكافحة الفساد مطالبة بأخذ زمام الأمور في مواجهة هذه الافة الخطيرة عبر تفعيل النصوص القانونية التي من شأنها تطبيق معايير النزاهة وقيمها ، بعد ان أخذ الإحباط واليأس يتسرب الى نفوسنا جراء ما ينتابنا من شعور بعدم جدية الجهات المعنية في مواجهة هذه الجريمة التي تستهدف مقومات الدولة وامكاناتها ومواردها المالية بصورة متكررة ، ودون اتخاذ أي إجراءات عقابية فعلية بحق الفاسدين ، ما يجسد الاستخفاف والاستهتار في الحفاظ على المال العام وحمايته من العبث والنهب . ولو ان الجهات المختصة عقدت العزم على سد هذه الثغرة في جدار الوطن ، فربما ما كنا بحاجة الى الاستعانة بالخارج للحصول على قروض بصورة قادت الى ارتفاع المديونية بشكل مخيف .
ان ما يلفت الانتباه أيضا ان الكثير من قضايا الفساد التي ترتكب بحق المال العام ، يتم أكتشافها بعد ان يترك بعض ( الفاسدين ) مواقعهم الوظيفية ، بطريقة تجعلنا نتساءل عن عدد ضعاف النفوس من الذين يعبثون الان بالمال العام ، وهم ما يزالون على رأس عملهم وفي مواقع المسؤولية التي يتخذون منها حصونا رسمية تقيهم وتحميهم وتساعدهم على تنفيذ جرائمهم حتى اذا ما غادروها ، نبدأ نشتم رائحة فسادهم النتنة .
ونؤكد هنا بان أكثر ما يتهدد المجتمعات وجود مخاطر او تهديدات داخليه تجعلها تتفكك وتتأكل من الداخل ، وتصبح هشة أيلة للانهيار والسقوط . وهذا بالضبط ما يحصل للمجتمعات والدول التي يرتع بها بعض اللصوص والفاسدين من أبنائها الذين ينخرون باجسادها ، ممن خانوا امانة المسؤولية ، عندما قادتهم الحسابات الخاطئة الى مواقع المسؤولية ، وعمدوا الى توظيفها واستخدامها في خدمة مصالحهم الخاصة والشخصية على حساب المصلحة الوطنية . ليتحولوا الى أعداء خطرين داخل الدولة ، ينهبون أموالها ومقدراتها ويجردونها من عناصر قوتها ومنعتها ووجودها ، فيسهموا بذلك بتفكيك جبهتها الداخلية ونسيجها الاجتماعي ، ويصبح بالتالي لا فرق بين عدو الداخل ممثلا بالمسؤول الذي ينهب المال العام ، وينخر جسم الوطن ويضعفه بفساده ، وبين العدو الخارجي الذي يهدد الوطن ويستهدف امنه واستقراره ووجوده .