بقلم: الدكتور حسين عمر توقه
لقد قفز الأردن في حياته النيابية قفزات كبيرة في تحقيق الديمقراطية
وهذه القفزات لا أعلم هل كانت للأمام أم
للخلف لا سيما وأن أعداد كل من الأعيان
والنواب قد زادت بشكل غير معقول وكما يقول أحد البسطاء من أبناء الشعب "كلما زاد عددهم زاد الهم على القلب"
.
فلو قمنا بعقد مقارنة بسيطة بين موقف مجلس النواب عام 1963 حين تم حجب الثقة
عن وزارة دولة السيد سمير طالب الرفاعي الأفخم وبين موقف مجلس النواب عام 2010 حين
تم منح حكومة دولة السيد سمير زيد الرفاعي الأفخم الأغلبية العظمى حيث صوت 111
نائب من بين 119 نائب بمنح الثقة. وبين الموقفين كان موقف الشعب الأردني المغاير
تماما لموقف نوابه وممثليه من خلال نبض الشارع الذي كان صاحب القرار الأخير والذي
أجبر دولة سمير الرفاعي بتقديم إستقالته .
لقد لمستُ بأن أي محاولة للكتابة عن
الإنتخابات النيابية التي ستجري في الأردن بتاريخ 10/11/2020 هي أشبه ما
تكون "بالمحاولة المحرمة والممنوعة قطعا" لا سيما إذا تطرقنا إلى
الأسباب والأساليب التي أرغمت بعضا من المرشحين إلى الإنسحاب من معركة الإنتخابات.
ولكي لا يبادر البعض الى محاولة التأثير على بعض أصحاب القرار من أجل
منع مقالتي هذه من النشر فلقد قررتُ الكتابة عن الدساتير والمجالس النيابية بين
عامي 1921 وعام 1945. لا سيما وأن الحقائق بما تحتويه هذه المقالة من أبعاد هامة
في الدساتير العربية والكتل والأحزاب والمجالس النيابية بين الحربين
العالميتين وقسوة المعلومات الواردة فيها
قد أرغمتني كي أجلس في هدأة الليل أفكر هل أنشرها على أسماع الشعوب العربية أم
أبقيها في أدراج مغلقة عساها تنضوي وتنضم
الى قائمة طويلة من الحقائق في طي النسيان. وإن من أكبر المفارقات التي توصلتُ
إليها أنه لا فرق بين تلك المجالس القديمة في القرن الماضي وبين مجالسنا اليوم .
المقدمة:-
لقد تمكنت الدول الغربية
وبالذات بريطانيا وفرنسا من تقييد الساسة
العرب بمفهوم جديد للنضال . حيث تم توجيه النضال القومي العربي وجهة إقليمية استهدفت
سن دستور وإجراء انتخابات نيابية
وتشكيل حكومات دستورية شريطة أن
تقوم هذه الحكومات الوطنية بتوقيع معاهدات
مع الدول الغربية مع الإصرار على أن يقر هذه المعاهدات مجالس نواب منتخبة ثمثل الشعوب العربية .... فأخذ الساسة العرب بالتنافس في تأسيس التجمعات والكتل والأحزاب للسيطرة على المجالس
النيابية ليتم على أيديهم لبس أكاليل
الغار والعزة والفخار بعقد معاهدة الشرف والإستقلال والتي لم تكن في الواقع غير
تكريس لإستمرار الإرتباط بالدولة الأجنبية.
وأخذت كل من بريطانيا وفرنسا تتحكمان
في تشكيل كل وزارة وطنية بل وفي
إسقاطها. وأخذت الأيادي الأجنبية تلعب في الخفاء . فكانت من خلال عملائها
وراء كل مجلس نواب ينتخب أو يحل أو حزب يشكل وأصبح هدف كل حزب إقناع الشعب بأنه أحرص من غيره على حقوق الشعب
وفي نفس الوقت يجهد في إقناع الحكومة الأجنبية بأنه أقدر من غيره على إقناع الشعب
بقبول المعاهدة المنشودة مع الدولة الغربية المستعمرة.
وبدلا من تضافر الجهود السياسية وتضافر أبناء الشعب الواحد من
أجل تشكيل جبهة وطنية واحدة أمام المستعمر دب النزاع بينهم وانشقوا
أفراداً وأحزابا وكلهم يدعي تمثيل الشعب وتجسيد آماله وأمانيه.
الأحزاب:-
لقد قام في البلاد العربية خلال ربع قرن من الزمان أكثر من مائة حزب أكثر من ربعها تم تأسيسه في سوريا ومثل ذلك
العدد في العراق وأكثر من اثني عشر حزبا في مصر . ولا يدخل ضمن هذا التعداد الأحزاب الشيوعية أو الأحزاب التي نشأت في المغرب كفروع لأحزاب أجنبية. ولقد أصر رؤساء
الأحزاب على أن النضال عمل تعاوني لا يمكن أن يكون فردياً وأنه يتوجب على الأفراد
الإنخراط في الحياة الحزبية بإعتبارها أمراً سياسيا في حياة الأفراد والأمة.
وبدأت الأحزاب تجند أعوانها بين طلاب المدارس والجامعات مما أضعف الروح العلمية بين الطلاب وأحل
التعصب محل التسامح والتواضع العلمي وكانت الأحزاب العقائدية أشد ضرراً من الأحزاب
التقليدية.
لقد كانت جميع هذه الأحزاب
بإستثناء ثلاثة منها إقليمية في
نشاطها ومبادئها ومع أن بعض الأحزاب
الإقليمية في سوريا والعراق تكلمت عن الأمة العربية والوحدة العربية ولكن
مفهوم الوحدة في نظرها لم يتعد وحدة
أقطار الهلال الخصيب . وهنا أعود لأنوه من جديد بأن الفترة التي أتحدث عنها قد سبقت الحرب العالمية الثانية . كما يجدر
التنويه بأنه بعد هذه الحرب قد قامت أحزاب
دعت الى الوحدة العربية كما نفهمها اليوم
كما قام في سوريا أول حزب عقائدي قومي في التاريخ لا يدعو الى احتقار القوميات
الأخرى ولا يدعو الى غايات عدوانية وإنما يهتم
بالقيم الإنسانية ويدعو لمساعدة
الشعوب في كفاحها ضد الإستعمار.
الدستور والمجالس النيابية:
كان مفهوم النضال واحداً لدى الأحزاب والكتل السياسية قبل الحرب العالمية الثانية. كلها تدعو
الى وضع دستور وتشكيل مجالس نيابية منتخبة وعقد معاهدات مع الدول الغربية ذات
المصالح في بلدهم ولقد جاءت الدساتير والإنتخابات والمجالس النيابية والمعاهدات
متشابهة . فلم ينص أي من الدساتير التي وضعت خلال هذه الفترة على أن شعب ذلك البلد
هو جزء لا يتجزأ من الأمة العربية بل وأكد دستور كل بلد أن شعبه أمة تامة كما أكد على سيادة البلد . ولقد منح الدستور
رئيس الدولة سلطات واسعة لتمكنه من القيام بالتزاماته نحو الحليف الغربي. وكان رئيس الدولة العربية والحليف الأجنبي يضيقان ذرعا بالدستور فيعطلانه . فلقد عطل الدستور المصري
سبع مرات وعاشت مصر بدون حياة
دستورية سبع سنوات وفرض عليها دستور جديد
لمدة ثلاث سنوات . كما علق الدستور في لبنان ثلاث مرات. ولمدة سبع سنوات . وعلق
الدستور أو ألغي في سوريا ست مرات
ولمدة مجموعها إثنا عشر عاماً. وشاهدت سوريا في تاريخها القصير مجلسين تأسيسيين وخمسة دساتير. كما عرف العراق
سبعة عشر مجلساً نيابيا ولم يكمل أي من هذه المجالس مدته القانونية باسثناء المجلس العاشر 1939- 1943 الذي أيد ست وزارات وملكين ووصيين على العرش . وكانت مقاعد المجالس حكراً على أشخاص معدودين. وكانت كل وزارة تحل المجلس القائم لتأتي بمجلس جديد يتآزر وإياها
فتحشد فيه عدداً من النواب بالتزكية وتساعد على إنجاح نسبة معينة
من المعارضين ويعرف المجلس بعد ذلك
بإسم رئيس الوزارة الذي أشرف على الإنتخابات .
وعرفت مصر عشرة مجالس نيابية لم يكمل أي منها مدته القانونية. وعمر
أحد هذه المجالس يوما واحداً فقط. ولكن لم تجر انتخابات نزيهة نسبياً إلا لست مجالس دامت عشر سنوات . كذلك
كان نصيب سوريا تسعة مجالس نيابية كما قام في الأردن عشرة مجالس تشريعية ولم تقم في غير هذه الأقطار أي حياة دستورية
نيابية.
لقد برع المستعمر الغربي في استغلال
الفوضى الحزبية وعدم استقرار
الحياة النيابية فقد أدرك أن مصالح النواب أصحاب المصالح الحقيقية أصبحت تهددها الحياة
النيابية الصحيحة أكثر من الإستعمار . فتضافرت جهود المستعمر والنواب على تشويه
الحكم النيابي وإثبات عدم صلاحيته وعدم ملاءمته للشعب . فقالوا بأن البرلمانية
تهدد الشرق العربي بمستقبله وانها تفسد الأخلاق وتفقر البلاد.
الوزارات والنواب:-
كانت المجالس تحت رحمة الوزارات
فكلما جاءت وزارة أصرت على الإتيان بمجلس نيابي يلائمها. ولم يسحب مجلس
نيابي الثقة من وزارة قائمة بل على العكس من ذلك كانت المجالس النيابية هي التي
تطلب ثقة الوزارات.
ونستشهد هنا بأقوال رئيس
الوزراء العراقي نوري السعيد مخاطباً النواب "هل في الإمكان أناشدكم الله أن يخرج أحد نائباً مهما كانت
منزلته في البلاد ومهما كانت خدماته في الدولة ما لم تأت الحكومة وترشحه . وأنا
أراهن كل شخص يدعي بمركزه ووطنيته فليستقل الآن ويخرج ونعيد الإنتخاب ولا ندخله في قائمة الحكومة ونرى هل هذا النائب الرفيع المنزلة والذي وراءه ما وراءه من المؤيدين يستطيع أن
يخرج نائباً".
وفي نفس الوقت لم تكن
الحكومات أكثر ثباتاً من المجالس النيابية
حيث عرفت سوريا خمسا وخمسين وزارة
ضمن أكثر من 150 وزيراً شكل نصفها من عام 1943
وترأس صبري العسلي خمسا من وزارات العهد الإستقلالي واشترك خالد
العظم بنصفها كما اشترك مفضي الأتاسي بعشر وزارارات والعجلاني بسبع وزارات وحسن جبارة
بخمس.
وشكل مثل هذا العدد من الوزارات في العراق ولقد ترأس نوري السعيد أكثر من ربع الوزارات في تاريخ العراق كما
اشترك بربع آخر كوزير للدفاع أو للخارجية.
أما في مصر فلم يزد عدد وزاراتها
قبل الثورة على الأربعين وزارة نصفها في عهد الملك فاروق الذي غير الوزارة
في آخر نصف السنة من حكمه ست مرات. كذلك بلغ عدد الوزارات اللبنانية خمسا وأربعين
وزارة. وزاد عدد وزارات الأردن على سبع وعشرين وزارة.
الخلاصة:-
لقد كانت الوزارات تتساقط
بحيث أصبح معدل عمر الوزارة لا يزيد على نصف السنة. وكذلك الحال بالنسبة
الى المجالس النيابية وإننا في بحثنا عن إجابة لهذه الظاهرة التي سادت عالمنا
العربي فإننا بلا شك سنجد أن النظم البرلمانية لم تقم لإشراك الشعب في تحمل
مسؤولية الحكم . بل إن الوزارات استهدفت
كسب تأييد النواب ضد مصالح الشعب. لقد فشلت الحكومات وفشلت المجالس
النيابية وكان سقوط الوزارات وقيامها وحل
البرلمانات وإجراء الإنتخابات كلها
مناورات وتمثيليات غايتها الأولى تغيير مفهوم النضال من محاربة الإستعمار الى التفاهم معه والحفاظ على كراسي الحكم.
وتحضرني في هذه اللحظات كلمات الشاعر عمر الفرا في قصيدته "الوطن
يا ابني رقم واحد"
الوطن عزة وكرامة وصحوة الوجدان
الوطن صبر وعزيمة وقوة الإيمان
الوطن يا ابني ماهو لفلان وابن فلان وقلب فلان
الوطن يا ابني ماهو طابع ولا هاتف ولا عنوان
الوطن يا ابني ما هو سايب . يصير بلحظة مجنونة لأي من كان
وفي النهاية أود أن أذكر القارىء الكريم أن الحقبة التي تناولتها هي بين عام 1921 وعام 1945 ونحن نتساءل هل
اختلفت هذه المجالس النيابية عن حكوماتنا ومجالسنا في عام 2020 ؟؟.
* باحث في
الدراسات الإستراتيجية والأمن القومي