بقلم: د. إبراهيم صبيح
في العام 1988 قضيت أنا وزوجتي اسبوعاً في مدينة
سان دييجو في أقصى جنوب الساحل الغربي للولايات المتحدة حيث شاهدنا عرضاً بأشعة
الليزر في "عالم البحار" وهو المتنزه الذي يضم أكبر مجموعة من الحيوانات
البحرية في العالم.
عدنا أنا وزوجتي مرات عديدة إلى
تلك المدينة الساحرة وكانت آخر مرة في العام 2011 حيث تنزهنا على كورنيش خليج سان
دييجو ودخلنا إلى المتحف البحري هناك. زرنا حاملة الطائرات "ميدواي"
والتي شاركت في الحرب العالمية الثانية ثم تحولت إلى متحف عائم ومشينا فوق مدرج
الطائرات على سطحها. نزلنا من حاملة الطائرات وزرنا الغواصة الأمريكية "كونتنيال"
وضاقت علينا أنفاسنا في الحيز الضيق الخانق للغواصة فتذكرت ما حدث
ل"ديمتري".
عند الساعة الثالثة صباحاً من
يوم 12 آب عام 2000 استيقظ ضابط البحرية الروسي "ديمتري كولينسكوف" ونهض
يمشي على أطراف أصابعه حتى لا يوقظ عروسته الجميلة اولجا التي تزوجها منذ ثلاثة
شهور فقط. قام ديمتري بالاغتسال وحلاقة شعر ذقنه وارتداء ملابسه العسكرية وخرج
مغلقاً الباب خلفه بهدوء. قبل خروجه لم ينسَ أن يترك رسالة إلى اولجا قال فيها:
"هي مناورة عسكرية تدريبية جديدة. لن أغيب طويلاً. لم أرغب في إيقاظك فقد كنت
غارقة في نوم عميق فجلست على طرف السرير أراقب وجهك الجميل. أود أن أقول لك أنني
أحبك".
وصل ديمتري إلى قاعدته العسكرية واستقل الغواصة الذرية كورسك التي تضم
تسع حجيرات ويقودها طاقم مكون من مائة وثمانية عشر بحاراً يقودهم أربعة ضباط وهو
أحدهم. ليس بعيداً عن القطب المتجمد الشمالي، غاصت الغواصة "كورسك" في
أعماق بحر "بارينتس". أطلقت كورسك طوربيداً على هدف عسكري تدريبي فحدثت
الكارثة. نشأ تفاعل كيماوي انتهى بانفجار سبعة طوربيدات أخرى محدثة هزة صغيرة
بمقدار 4.2 على مقياس ريختر سجلتها أجهزة السيسموغراف في دول شمال أوروبا. حاولت
الغواصة جاهدة الصعود إلى السطح ولكن الحجيرات الأربعة الأولى للغواصة كانت قد
امتلأت بالماء الذي تدفق إليها وبدأت الغواصة بالترنح والسقوط نحو قاع البحر الذي
ارتطمت به بشدة. الحجيرة الخامسة التي تحتوي على الرؤوس النووية امتصت الانفجار
بفضل سماكة الفولاذ في جدرانها وحيث أنها مصممة لتغلق أبوابها أوتوماتيكياً عند
حدوث أي طارئ، منعاً لحدوث تلوث نووي، فقد توقف المفاعل النووي عن العمل وبدأت
الطاقة الكهربائية بالتناقص.
بقيت كورسك في قعر البحر لمدة ثمانية أيام فمات كل من فيها وتم انتشالها
بعد عام من غرقها وفيها جثث بحارتها. في جيب البدلة العسكرية لديمتري تم العثور
على رسالة في زجاجة فارغة مغلقة بإحكام . كتب ديمتري بخط واضح مفهوم ومقروء:
"تركنا الحجيرات السادسة والسابعة والثامنة وتوجهنا نحو الحجيرة التاسعة
المصممة للهرب. لا أحد منا يستطيع الخروج. بقي منا سبعة وعشرون شخصاً بعد وفاة
تسعة بحارة اليوم فدخل الرعب قلوبنا ونحن نشاهد أجساد زملائنا تطفو حولنا وأصبحت
رائحة الهواء المتبقي نتنة في هذا القبر الحديدي. درجة الحرارة تتناقص باستمرار مع
تدفق الماء البارد ونور المصباح الكهربائي بدأ يتذبذب".
على ظهر نفس الصفحة كتب بخط رديء
متموج وغير متناسق قائلاً: "لا أستطيع أن أرى شيئاً فأنا أكتب إليك يا اولجا
في الظلام الدامس. إذا جاء الموت فسوف أفارقك وأنا أحبك". خرجنا أنا وزوجتي
من جوف الغواصة الضيق في سان دييجو وتنسمنا بعمق هواء البحر العليل وأمسكت بيد
زوجتي وقلت لها: "أحبك".
Email: [email protected]