حضرت والدتي من الأردن برفقة شقيقتي لزيارتي وأنا في السنة الأولى في كلية طب الإسكندرية. كان هدف الزيارة طبي في المقام الأول فشقيقتي التي كانت تبلغ العاشرة من عمرها في ذلك الوقت, عانت من تشنجات عصبية أصابتها منذ ولادتها. دخلت أنا كلية الطب تحقيقاً لرغبة والدتي ,ربة البيت التي تغسل ثياب أولادها بيديها, وتحقيقاً لرغبة والدي سائق الشاحنة الذي كان يتمنى أن يرى ابنه طبيباً, وتحقيقاً لرغبة شديدة عندي في المشاركة في علاج شقيقتي المريضة. لم استطع أنا طالب السنة الأولى في كلية الطب مرافقة والدتي إلى القاهرة لزيارة الطبيب فرافقتها احدى قريباتي في رحلة القطار من الإسكندرية إلى القاهرة. جلست والدتي مع قريبتي وشقيقتي في العيادة الواسعة الفاخرة التي تعج بحشود المرضى اللذين جاءوا كي يتم علاجهم على يدي الطبيب القاهري الذي كان, (رحمه الله) في السبعينات من القرن العشرين, أشهر طبيب مصري في مجال جراحة الدماغ والأعصاب. الانتظار في العيادة يمتد لساعات ووالدتي تجلس تتابع المشهد وهي في حالة قلق وترقب. فجأة تدخل إلى العيادة سيدة أنيقة تلبس حذاءً لامعاً وتحمل في يدها شنطة ذات لون يناسب لون معطف الفراء الفاخر الذي كانت ترتديه. تجتاز السيدة الأنيقة حشود المرضى والمراجعين وتفتح باب غرفة الفحص وتغلق الباب خلفها بهدوء.
احتج المرضى والمراجعين ومنهم والدتي على ما حدث فخرج الطبيب ليعتذر لهم قائلا: هذه السيدة التي دخلت عندي ليست مريضة بل هي والدتي التي حضرت لزيارتي في أمر خاص. أتمت والدتي زيارتها للطبيب الذي عاين شقيقتي ووصف لها الدواء المناسب. رجعت والدتي من القاهرة حيث كنت في استقبالها في محطة سيدي جابر بالإسكندرية. خلال توجهنا بالتاكسي من محطة القطار إلى غرفتي المتواضعة أخبرتني والدتي عن نتائج زيارتها الطبية وحدثتني عن تلك السيدة الأنيقة ثم نظرت إلى الأفق البعيد من خلال زجاج السيارة وقالت: أتضرع إليك يا رب السماوات والأرض أن تجعل ابني طبيب أعصاب معروف وأقوم أنا بزيارته في عيادته يا قادر يا كريم. لم تتحدث معي والدتي عن الموضوع بعد ذلك الحين ولكنني حملت حلم والدتي في قلبي وعقلي. تمر السنون وأتخرج من كلية الطب وأسافر إلى بريطانيا للتخصص في جراحة الدماغ والاعصاب ويتم تعييني استاذاً مساعداً في كلية الطب بالجامعة الاردنية في منتصف الثمانينات. بعد مرور اربع سنوات من خدمتي في كلية الطب ومستشفى الجامعة الاردنية, اخترت يوماً لتحقيق الحلم. طلبت من اخي ان يحضر والدتي الى عيادتي بحجة عمل فحوصات مخبرية, في الوقت الذي تكون العيادة فيه مزدحمة بالمرضى والمراجعين اللذين يجلسون في صالة الانتظار حيث يفصلهم عني باب العيادة الذي تحرسهُ السكرتيرة جيداً.
طلبتُ من أخي أن يُقنع والدتي بأن تتأنق وهي تزورُ ابنها في العيادة حيثُ حضرت وهي تلبسُ معطف الفراء الذي اشتريته لها من بريطانيا قبل ذلك بعام, ومعهُ كانت تلبسُ حذاءً لامعاً وتحملُ شنطة يد تماثلُ لون معطفها.
طلبت من السكرتيرة أن تخبرني عند حضور والدتي وأن تبقيها خارج باب العيادة. خرجتُ لاستقبالِ والدتي واعتذرتُ للمرضى أن هذه السيدة ليست مريضة بل هي والدتي جاءت لزيارتي في أمرٍ خاص. قمتُ باجراء الفحوصات المخبرية لوالدتي التي عادت مع أخي الى المنزل.
أنهيت عملي مبكراً في ذلك المساء وعدتُ الى الزرقاء حيثُ استقبلتني والدتي كعادتها بترحابٍ بالغٍ. بعد تناول العشاء طلبتُ والدتي أن تجلسَ معي لوحدي. قالت : أتعلم يا ابني أن الله سبحانهُ وتعالى قد حقق لي اليوم حلماً. بدأت تحدثني عن تلك السيدة الانيقة في القاهرة وكأنها تحدثني عنها لأول مرة فقد نسيت تماماً أنها قد أخبرتني عنها في تاكسي الاسكندرية قبل ثمانية عشرَ عاماً. بكت والدتي وأبكتني فوالله لم أر وجه أُمي بهذا النقاء وهذه الروعة مثلما شاهدته في تلك الليلة, وجه اُمٍ راضية قانعة حقق الله لها حلمها.
تمرُ السنون وأسافرُ بالأمس لحضور مؤتمر طبي خارج الاردن. يتصل بي أخي ليعلمني بوفاة والدتي, التي بالرغم من أنها سلمت روحها لبارئها الا أن عيونها بقيت مفتوحة. كان تفسير أحدهم أن لدى المرحومة أحد الأقارب المسافرين. رجعتُ الى الأردن حيثُ قبلتُ وجهها وكانت عيونها لازالت مفتوحة ووجهها البهيُ يشعُ بالقناعةِ والرضى.
قلتُ لها وداعاً...يا قطعة من روحي. أقسم أنها كانت مغمضةَ العينين عند دفنها.
رحمك الله يا والدتي.