تباينت دول العالم في المدة والحدة الخاصة بما اتخذته من إجراءات مقيدة للحريات العامة بموجب قوانين الطوارئ لاحتواء تفشي وباء كورونا، هذا التباين لم يأتِ محكوماً فقط بقراءات منحنى الإصابات والوفيات في تلك الدول، وإنما عكس تأثير النظم السياسية والثقافة المجتمعية التي تسود في كل دولة. ففي حين لم تجيّر شعوب بعض الدول لحكوماتها مكتسباتها الديمقراطية على بياض لتتصرف فيها كما تشاء؛ فأبت إلا أن تكون لها كلمتها في ما يُتخذ من قرارات حتى في ظل ظرف كالذي نعيشه؛ إلى الحد الذي طالبت به جماهير كرة القدم في إسبانيا بضرورة أن تستمزج قبل اتخاذ أي قرار باستئناف الدوري خلف أبواب مغلقة وبدون جماهير، سلمت شعوب أخرى كما اعتادت زمام أمرها لسلطة حكوماتها الأبوية تحت وطأة الخوف والذعر والبحث عن شخصيات عامة محورية تتصدر المشهد تجد في كلماتها وقراراتها المرشالية مبعثاً على الطمأنينة، تماماً مثل الطفل الذي يجد مأمنه في حضن أمه أو أبيه إذا ما استشعر الخطر بغض النظر عن حقيقة منعة الملاذ الذي اختاره أو ربما فرض عليه.
اتخذت إدارة أزمة احتواء جائحة كورونا في الولايات المتحدة الأمريكية أبعاداً سياسيةً متشعبة ومعقدة تجسدت في المناكفات بين الحكومة الفدرالية وحكام الولايات خصوصاً الديمقراطيين منهم في ما يتعلق بصلاحيات اتخاذ قرار فتح الاقتصاد، إلى حد دفع بالرئيس إلى تأييد دعوات وصفت بالمتطرفة تنادي بـ "تحرير" بعض الولايات مثل فيرجينيا وميتشغن ونيويورك، حيث قام حكام هذه الولايات بتطبيق فرض حظر التجمع والتجول بأقصى درجاته المتاحة دستورياً وقانونياً للسيطرة على تفشي الوباء. شغف الرئيس لفتح الاقتصاد للمحافظة على أكبر ركائز حملته الانتخابية المتمثلة في إنعاش الاقتصاد وخفض نسبة البطالة التي نجح فيها خلال فترته الرئاسية الماضية، دفع به إلى نوع من الشطط في إسقاط آرائه وتصوراته الشخصية على استراتيجيات وسبل مكافحة الفيروس؛ حيث دعا إلى دراسة إمكانية حقن من تثبت إصابتهم بمواد معقمة أو تجربة حقنهم بأشعة حينما عرض أحد الخبراء أمامه نتائج دراسة أثبتت أن الفيروس يموت خلال بضع ثواني على الأسطح إذا ما تعرض لأشعة الشمس أو تم مسح هذه الأسطح بالمواد المطهرة. بغض النظر عن زعم الرئيس بأنه لم يكن جاداً في ما دعى إليه وبغض النظر عن موقف شعوب الشرق الأوسط من سياساته اتجاه قضاياها المحورية، وبمعزل عمّا ينعاه عليه خصومه من إخفاق في إدارة الأزمة الوبائية الراهنة، فإن ما يسجل له أن قلقه من تأثير الأزمة على فرص إعادة انتخابه لفترة ثانية لم يدفعه إلى استثمار الظرف لطرح فكرة تأجيل الانتخابات، حيث كان واضحاً حينما سئل عن ذلك قائلا: "ليس هناك ثمة ما يدعو لذلك والثالث من نوفمبر تاريخ جيد لإجراء الانتخابات".
المتابع للإيجازات الصحفية لترامب وفريقه وكيفية تناول الإعلام الأمريكي لما تتخذه الإدارة من قرارات وما يصدر عنها من تصريحات، يدرك كيف أن حرية التعبير والإعلام الحر يلعبان الدور الرئيس في المحافظة على المكتسبات الديمقراطية وتكريس قوة وتأثير الرأي العام في صناعة القرارات المتعلقة بإدارة الأزمة.
في المقابل، وجدت الأنظمة غير الديمقراطية نفسها مسترخيةً في وضعية مريحة جداً ليس فقط من جهة وجود منظومة تشريعية تدعم انفرادها بالسلطة والقرار وإنما أيضاً باستعذاب شعوبها لفكرة وممارسة الإذعان المطلق لكل ما يُتخذ من تدابير وإجراءات أثناء الأزمة، هذا فضلاً عن تماهي بعض التيارات المعارضة مع أجواء التقييد من الحريات وتعطيل العملية الديمقراطية –إن وجدت- بغض النظر عن جدواها وجديتها، وذلك لإطالة أمد ظهورها في المشهد السياسي من خلال الاحتفاظ بمقعد برلماني مدةً إضافية أو البقاء داخل الحكومة أو على رأس هيئة أو مؤسسة وازنة. ثمة ظاهرة خطيرة تصاحب الأزمات العامة في هذه الدول؛ تتمثل في تحول براغماتي لدى بعض النخب التي كانت بالأمس القريب مصنفة في قوى التغيير الرامية إلى تعزيز حرية الرأي والتعبير، إذ سرعان ما تنكفئ بعض هذه النخب على نفسها مسكونةً بهاجس النشوز عن الاتجاه العام المؤيد للسلطة والذي يمنحها حصانةً من أي نقد أو محاسبة في كل ما تتخذه من قرارات لتجنب ويلات الأزمة، ليغدو مصير كل من يحاول تسليط الضوء على خطأ هنا أو إخفاق هناك؛ التخوين والتغريب والتغريد خارج السرب الوطني العام.
ذاكرة الأزمات قصيرة لا يعلق بها ما تحقق للسلطة من مكتسبات آنية مستحقة أو بدافع الخوف والنجاة، لتبقى ذاكرة الشعوب التي تؤرخ لحكوماتها إما بما تسببت به من تدهور في مجال احترام الحريات والنهوض بالاقتصاد، وإما بما حققته من عيش كريم وصون لكرامة المواطنين وحقوقهم ومكتسباتهم الديمقراطية حتى ولو كانت متواضعة.