يبدو ان الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي كانت سائدة في أواسط الثمانينيات وما تلاها، قد ساهمت وبشكل ملحوظ في زيادة الاقبال على التعليم العالي والتعليم الجامعي وبشكل غير مسبوق، حيث ساهمت الفرص الكثيرة الواعدة في دول الخليج العربي الشقيقة، والرغبة الكبيرة لدى المواطن الأردني في تحسين الظروف المعيشية بالنظر الى التعليم باعتباره السبيل الوحيد لتحقيق ذلك.
وقد ظهر ذلك جليا في الممارسات الحكومية والشعبية، فبعد ان كان عدد الجامعات الحكومية الرسمية في الأردن اربع جامعات فقط (الأردنية 1962، اليرموك 1976، مؤتة 1981 والعلوم التكنولوجيا 1986) ارتفع العدد اليوم الى 27 جامعة حكومية وخاصة (10 جامعات حكومية، 17 جامعة خاصة) إضافة الى فروع الجامعات الأردنية كالبلقاء (13) كلية جامعية والجامعة الأردنية فرع العقبة، إضافة للجامعات العربية والإقليمية ( الجامعة العربية المفتوحة مثالا) والذي حفز وشجع الكثير من الأردنيين بالإقبال على التعليم الجامعي وفي جميع مراحله التعليمية( البكالوريوس، الماجستير، الدكتوراه) ، إضافة للدارسين في جامعات غير اردنية ( الجامعات العربية والأجنبية).
امام هذا التحول او الرغبة العارمة في التعليم والذي كما اسلفت ساهمت ظروف اجتماعية واقتصادية في تشكيله واما المطالب الشعبية بإنشاء الجامعات في المحافظات الأردنية وبلا استثناء اطلقت الحكومة اليد للقطاع الخاص وللمتنفذين بتأسيس الجامعات الخاصة ، كما قامت الحكومات أيضا واستجابة لمطالب واعتبارات جغرافية وشعبوية بتأسيس الجامعات كذلك ما أدى الى هذا الارتفاع الكبير في اعداد الجامعات وارتفاع اعداد الخريجين مقارنة بعدد السكان وحاجات التنمية الفعلية وقدرة الدولة على توظيف هذه الاعداد الكبيرة من الخريجين.
وما يلاحظ على هذه الجامعات، تشابه برامجها لا بل تطابقها في كثير من الأحيان، فالبرامج التي تطرحها مثلا جامعتي البلقاء التطبيقية وجامعة الطفيلة التقنية لا تختلف في كثير من برامجهما عن برامج أي جامعة اردنية أخرى، ما ساهم في بقاء سؤال حول الغاية من انشاء هذا العدد من الجامعات في بلد معروف بصغر مساحته وتقارب المسافة بين محافظاته بشكل عام كالأردن.
وقد أدت هذه الزيادة غير المدروسة والمضبوطة في اعداد الجامعات وفي اعداد الطلبة المقبولين فيها، الى زيادة اعداد الخريجين في تخصصات كثيرة لا يحتاجها سوق العمل الأردني ولا العربي الخليجي أيضا.
وقد ساهمت مديونية الجامعات وتقليل الدعم الحكومي للجامعات في دفع الجامعات الى البحث عن بدائل لحل مشكلاتها المالية التي تتراكم وتتزايد يوما بعد يوم، فكان الحل كذلك بالتوسع في قبول الطلبة وفتح تخصصات وتقديم تسهيلات للطلبة للالتحاق بهذه البرامج ما فاقم المشكلة أكثر.
تخرج الجامعات الأردنية ما يزيد عن (60000) طالبا سنويا في مختلف التخصصات وفق إحصاءات التعليم العالي للعام 2015\2016 ، إضافة لأولئك الذين يتخرجون من جامعات غير اردنية، ما يجعل مشكلة البطالة المشكلة والتحدي الأبرز الذي على الحكومة ان تواجهه بقرارات جريئة، تأخذ بعين الاعتبار ان هذه النسب من البطالة نسبا مؤرقة جدا وهي تمثل قنبلة اقتصادية واجتماعية خطيرة جدا يمكن ان تنفجر في أي لحظة.
وهنا لا بد من محاولة الإجابة على سؤال، وهل هناك تخصصات غير راكدة او مشبعة وماذا يمكن ان نفعل للتخفيف من حدة هذه المشكلة الخطيرة؟
بالنظر الى تصنيف ديوان الخدمة المدنية الأردنية للتخصصات الراكدة والمشبعة على مستوى المملكة للعام 2017\2018 ، فيلحظ ان عددا محدودا جدا من التخصصات التي يمكن ان تندرج ضمن التخصصات المطلوبة مقارنة بالتخصصات الراكدة والمشبعة، ففي تخصصات الذكور، أشار الديوان الى ان جميع الاختصاصات الطبية وطب الاسنان(البورد)، تمريض، شريعة ودراسات اسلاميه، اللغة العربية وآدابها، كيمياء، رياضيات، تاريخ، فيزياء، احياء، تربية مهنية، صناعات غذائية، هندسة تخطيط المدن، جغرافيا، ارصاد جوية، احصاء، اشعة تشخيصية. هي تخصصات مطلوبة، اما فيما يتعلق بالإناث فجميع الاختصاصات الطبية وطب الاسنان(البورد)، قباله، ارصاد جوية. وبالنظر الى هذه التخصصات، فاعتقد ان الحاجة لهذه التخصصات هي حاجة مؤقتة ويمكن ان تتحول كل هذه التخصصات المطلوبة الان الى تخصصات راكدة ومشبعة في فترة زمنية قصيرة، خاصة إذا علمنا ان بعض هذه التخصصات كانت راكدة قبل فترة زمنية وقد عادت الى الطلب من جديد بعد ان أحجم الطلبة عن دراستها لمدة طويلة.
ولعل في ذلك إشارة واضحة الى أهمية الدور الذي قام به الديوان والحكومة في تقليل الاقبال على التخصصات الراكدة في بعض الفترات الزمنية الي واجه فيها بعض الخريجين في بعض التخصصات مشكلات في التعيين. كما ينبغي الإشارة كذلك الى برامج الدراسات العليا التي تنتشر في الجامعات بشكل كبير أيضا وهي تنذر بذات النذر، فأعداد طلبة الدراسات العليا في بعض التخصصات باتت اكثر من طلبة البكالوريوس وهي مشكلة لا تقل خطورة عن مشكلة الخريجين من حملة الشهادة الجامعية الأولى.
كما ان في ذلك إشارة واضحة الى ان مخرجات التعليم العالي في الأردن جاءت مخالفة كذلك لما خططت له الدولة عند تأسيس الجامعات وزيادة اعدادها واعداد الدارسين فيها، وهي إشارة واضحة الى أهمية النوع على حساب الكم، فلا تخصص راكد ام خريج متميز مهما كان تخصصه.
اعتقد اننا بحاجة ماسة، وأكثر من أي وقت مضى، الى اتخاذ قرارات ليست شعبية، قرارات تجعلنا نعيد حسابتنا افرادا وحكومة في كثير من اولوياتنا وانماط حياتنا، فما معنى ان يدفع مواطن مبلغا لا باس به من المال، وينفق من عمره اربع سنوات او اكثر وهو يحاول ان يصنع حلما صنما من جليد يذوب مع اشراقة اول شمس حقيقة. لماذا لا توقف القبولات في التخصصات الراكدة وفي جميع المراحل التعليمية سواء في الداخل او الخارج؟ اليست متحركة حقا، فالراكد يمكن ان يكون أكثر المتحركين يوما ما !
* جامعة مؤتة- كلية التربية