بقلم: د. هايل ودعان الدعجة
ربما الكثير منا لم يدخل في تفاصيل
معركة الكرامة ، التي شكلت نقطة تحول وعلامة فارقة في تاريخ الصراع العربي
الاسرائيلي في ظل التضحيات والانتصارات والبطولات النوعية والاسطورية التي حققها
نشامى الجيش الاردني ، بطريقة اعادت للامة العربية كرامتها وثقتها بنفسها ،
ليشعر بقيمة هذه المعركة واهميتها ودورها في تقويض واجهاض العملية العسكرية
الاسرائيلية ، التي هدفت الى تهديد الاردن كيانا ووجودا ومصيرا وهوية بعد ان
اجتازت قوات العدو نهر الاردن من عدة محاور ، معتمدة على عمليات تجسير وغطاء
جوي ونيران كثيفة ، محاولة احتلال اراضي اردنية والاقتراب من العاصمة عمان ، لتكون
بمثابة منطقة عازلة وامنة توفر للكيان الاسرائيلي عمقا استراتيجيا ، وبنفس الوقت
تفرض شروطا استسلامية على الاردن ، ترجمة لسياسة الامر الواقع . خاصة ان الاردن قد
خرج للتو من حرب حزيران ١٩٦٧ التي تجرعت فيها الجيوش العربية هزيمة نكراء على يد
الجيش الاسرائيلي ، الذي قاده غروره وغطرسته الى التفكير باعادة الكرة على الجبهة
الاردنية هذه المرة ، وفقا لحسابات وتصورات خاطئة ، اكدت انه بهذه الخطوه غير
المحسوبة ، قد منح الاشاوس في جيشنا الاردني ، فرصة ثمينة كان يتحينها ، ليرد
ويثأر وينتقم من هزيمة ١٩٦٧ ، التي عابها غياب التنسيق العربي وتخبط القيادة
العسكرية العربية ، التي تاهت بوصلتها في قيادة المعركة على جبهات القتال ، بطريقة
اشرت الى جهلها وعدم معرفتها باصول ادارة المعركة وقيادتها ، لتكون بذلك المسؤول
الاول والمباشر عن هذه الهزيمة .. حتى اذا ما اتيحت الفرصة امام الجيش الاردني في
معركة الكرامة للانتقام ، بقيادة اردنية صرفة وخالصة ، بعد ان اعيد تنظيمه ،
تجهيزا وتسليحا وتدريبا واعدادا بعد معركة حزيران مباشرة ، كان العالم .. كل
العالم يقف بانبهار ودهشة واعجاب شاهدا على الروح القتالية والمعنوية العالية التي
تحلى بها الجندي الاردني في المعركة ، وهو يلقن العدو الاسرائيلي درسا في اصول
المواجهة العسكرية ، مختزلا ( ومعوضا ) فارق الإمكانات التسليحية والعسكرية التي
تميل لصالح العدو ، في الارادة والعزيمة الصلبة التي تسلح بها هذا الجندي ،
واستمدها من التعبئة المعنوية التي منحها اياه المغفور له باذن الله جلالة الملك
الحسين بن طلال ، بحضوره على الخطوط الامامية بين الجنود ، وفي غرفة
العمليات قبل ان تبدأ المعركة بوقت قصير جدا ، ليوقع نشامي قواتنا المسلحة الباسلة
بالجيش الاسرائيلي هزيمة نكراء ، لعب فيها العمل الاستخباراتي الاردني ، الذي نجح
في متابعة التحركات والحشود الاسرائيلية ، الدور الاكبر في تحديد ساعة الصفر ،
وقبل شهر من وقت وتاريخ تحديدها من قبل العدو ، ممهدا بذلك لهذا النصر الاسطوري ،
الذي حطم مقولة الجيش الاسرائيلي الذي لا يقهر ، وشكل اول انتصار تحققه دولة عربية
على الجيش الاسرائيلي ، الذي لم يتمكن بعد هذه الهزيمة ايضا من تحقيق اي انتصار في
العمليات العسكرية التي خاضها على الجبهات العربية المختلفة ، حتى انه لم يفكر
باللجوء الى اتباع اسلوب المعارك البرية بعد ان بات جنوده ودباباته صيدا سهلا على
وقع القصف الشرس وكثافة النيران الاردنية ، مما اضطره الى ترك جثث جنوده ومعداته
وآلياته المدمرة في ساحة المعركة دون ان يتمكن من سحبها ، حتى انه اجبر ولأول مرة
في تاريخه الى طلب وقف اطلاق النار اكثر من مرة ، وهو ما رفضه المغفور له الملك
الحسين ، ما دام هناك جندي اسرائيلي واحد على الارض الاردنية . دون ان نغفل دور
عوامل اخرى قادت الى تحقيق هذا النصر الاردني التاريخي ، ممثلة بالتخطيط والتحضير
والتنسيق بين الوحدات والاجهزة العسكرية الاردنية ، وبينها وبين بعض عناصر
المقاومة الفلسطينية في بعض مواقع القتال . اضافة الى اتباع الجيش الاردني اسلوب
القتال في مجموعات صغيرة بلغت العشرات ، كانت موزعة في مختلف جبهات المعركة ،
والتي كان لها الفضل الكبير في تكبيد العدو الاسرائيلي الكثير من الخسائر المادية
والبشرية ومن مسافات قصيرة جدا ، مكنتها من تحقيق اصابات مباشرة ، اربكت العدو
واثخنت جراحه ، بطريقة قادته الى الانسحاب من ارض المعركة وهو يجر اذيال الخيبة
ومرارة الهزيمة والفشل في اكثر الفصول ظلامية في تاريخ الجيش الاسرائيلي ، الذي
تكبد خسائر جسيمة في الارواح والمعدات ، مما دفع قياداته العسكرية الى الاعتراف
بالهزيمة ، وبحرفية الجيش الاردني وكفاءته ومعنوياته العالية التي منحته ميزة
التفوق على الجيش الاسرائيلي .