بعد هجوم "كرايست تشيرش" الإرهابي في نيوزيلندا، عاد الحديث عن جدلية عقوبة الإعدام من منظور فلسفي إنساني من جهة و منظور قانوني أمنى من جهة أخرى. بهذا المقال سأقوم بنقاش "عقوبة الإعدام" التي تُمثّل المادة الأخطر في لوائح قوانين العقوبات و أكثرها جدلاً بين الحقوقيين والناشطين ومنظمات المجتمع المدني.
اعتمد المجتمع الدولي العديد من الصكوك، كالبروتوكول الاختياري الثاني الملحق بالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والبروتوكول السادس و البروتوكول الثالث عشر الملحق بالاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان كما ببروتوكول الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان التي تدعو بإلغاء عقوبة الإعدام في جميع الظروف، التي تعتبره منظمة العفو الدولية إنتهاكاً لحقوق الإنسان أيضاً.
هذه البروتوكولات التي أدرجت عقوبة الإعدام بنقاش تحت بند جميّل وهو الحق في الحياة والحق في عدم التعرض للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة مستندةً "للإعلان العالمي لحقوق الإنسان" الذي اعتمدته الأمم المتحدة في العام 1948، أي بعد عدة أشهر من إقدام الجمعية العامة للأمم المتحدة على أكبر جريمة إنسانية بتاريخها بإصدارها القرار (181) المُفضي بتقسيم فلسطين في التاسع والعشرين من تشرين الثاني من العام 1947.
و بعد أن قام المجتمع الدولي بغض الطرف عن أول عملية إرهابية على الأرض العربية حين قامت منظمة "إيجون" أو "إتزل" الإرهابية بتفجير فندق الملك داود بالقدس بالعام 1946 وتجاهل عمليات التهجير القسري وعمليات التطهير العرقي للفلسطينيين كمذابح "بلدة الشيخ" و "دير ياسين" "قرية أبو شوشة" و "الطنطورة" على سبيل المثال التي إستُخدمت بها نظرية "إدارة التوحش" التي على أثرها أُنتهكت حقوق أكثر من سبعمائة ألف إنسان بالتهجير والإجلاء. وهي النظرية ذاتها التي انتهجتها القاعدة بأفغانستان ولاحقاً بالعراق وسوريا لانتهاك حقوق البشر و الحجر والكرامة الإنسانية أيضاً تحت مسميات مختلفة.
و من زاوية أخرى، نجد أن قانون الإعدام و قوانين حقوق الإنسان تتعدى كونها أداة لتحقيق مآرب سياسية بإستخدامها لتأطير مفهوم أمني معين أيضاً، يتخطى بدوره التناكف السياسي. على سبيل المثال حين نشرت صحيفة "إسرائيل هايوم" صورة لأبن الجاسوس الصهيوني "عزام عزام" مع أبيه يوم تخرجه ضابطاً من الكلية العسكرية في النقب لتأطير مفهوم أن التعامل معنّا لا توجد له عواقب، بل له منافع أيضاً.
لذلك لا يقتصر الأمن القومي في أي دولة على الأمن بمعناه المجرد المعروف. فهناك أمن عسكري وأمن سياسي وأمن اقتصادي وأمن أسري الذي يتطور ليصبح أمناً إجتماعياً، وهو الذي يُمثل الركيزة الأساسية للأمن القومي بمفهومه الشامل، وهذا "المفهوم الشامل" للأمن لا يقوم إلا بالأمن التشريعي الذي يؤطر العدل بالدولة الذي يمثل أساس الحكم وبقاء الأنظمة الحاكمة.
المجرمون والفاسدون جميعهم من أفراد المجتمع ومُخرجاً من إنتاجه، لهذا وجود قانون عقوبات علمى ومنهجى يحد من الآفات والظواهر الاجتماعية السلبية التي تسلّب المجتمع الشعور بالأمن و الأمان و الطمأنينة هو أمر وجودي كما أن وجود سيادة حقيقية للقانون على كافة الشرائح الإجتماعية بتطبيقه بشكل عادل هو ما يحقق الأمن للدولة.
بعد هذا التأصيل المقتضب، أريد أن أقول أنه لهذا السبب أؤمن أنّ العنصر المؤسس لأمن الدولة هو تفكير وثقافة المجتمع، والعنصر الباني لتفكير وثقافة المجتمع هي الدولة نفسها. وذلك لأن أساس التخطيط لتشريع (لوائح قانون العقوبات) في أي مجتمع إنساني يُبّنى على تقسيم المجتمع لأربع شرائح "فقط"، وهذه الأقسام هى:
1) الطيبون
2) الطيبون مع حس مبادرة
3) الأشرار
4) الأشرار مع حس مبادرة
فعدم معاقبة شريحة "الأشرار مع حس مبادرة" سيكون ذلك حافزاً "للأشرار" الانضواء تحت هذه الشريحة، وبالتالي لن تستطيع شريحة "الطيبون مع حس مبادرة" العمل فتخبت شريحة "الطيبون" وهذا ما يزيد من الآفات والظواهر الاجتماعية السلبية التي تسلّب المجتمع الشعور بالأمن و الأمان و الطمأنينة. والعكس صحيح، عند معاقبة هذه الشريحة تخبت شريحة "الأشرار" ويُصّبح لشريحة "الطيبون" حس مبادرة فيزدهر المجتمع وهذا التقسيم يجانس منطق وروح علم الإجتماع و مكافحة الجريمة لغايات التشريع.
ما يقارب من ثلثي بلدان العالم جعلت كل من جرائم القتل و الإرهاب كما الخيانة و التجسس ومحاولة الإنقلاب على الدولة و القرصنة وتهريب المخدرات وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وارتكاب المجاز أو القتل الجماعي كما في حالة الهجوم الإرهابي في "كرايست تشيرش" في نيوزيلندا وقائع لا يعاقب عليها القانون بتنفيذ الإعدام بحق المتهمين، إما بإلغاء العقوبة كلياً بإقرار مشروع قانون، أو بتعطيل تنفيذه في حال وجوده.
فالمبدأ الفكري الذي اتبعته هذه الدول هو تعطيلاً الأمن التشريعي ومدخلاً يخّل بالأمن السياسي والعسكري وهو بذاته تعطيلاً للأمن إجتماعي بسلّب المجتمع الشعور بالأمن و الأمان و الطمأنينة وباب نجاة غير مباشر لمن يريدون إرتكاب المزيد من المجاز بإسم الدين أو القومية. وهو أيضاً تحفيز غير مباشر لهؤلاء لإرتكاب المزيد من الجرائم طالما أحكامهم ستكون مؤبدة ومن الممكن أن يخرجوا من السجن بتغيير قانون أو توقيع مرسوم. وبه إفساح مجالاً أوسع لشريحة "الأشرار مع حس مبادرة" بتقليل من تبعات ارتكابهم لهذه الجرائم.
ختاماً نقول أن ما تقوم به هذه المنظمات الدولية، وعلى رأسها منظمة العفو الدولية من معارضة عقوبة الإعدام في جميع الحالات بلا استثناء، وبغض النظر عن طبيعة الجريمة أو خصائص المجرم هو بذاته إنكاراً مطلقاً ونهائياً لحقوق الإنسان و تجريداً للدولة من الأمن القومي بمعناه المجرد المعروف، كما كان لإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948 مجرداً من الإنسانية بعد صدورة من نفس المجموعة التي إرتكبت جريمة إصدار القرار (181) بالعام 1947. فتسييس المبادئ يُضعف الحُكمّ و سفسفة قوانين العقوبات تُفسد المجتمع و جمعهما معاً يهدم الدولة.