بقلم: د هايل ودعان الدعجة
ربما فات الرئيس الامريكي دونالد ترامب
ان تربع الولايات المتحدة على عرش النظام الدولي انطوى على اكلاف باهظة ، اقتضتها
مصالحها التي ادخلتها في مواجهات مفتوحة على كل الاحتمالات والجبهات في الساحة
الدولية ، بهدف توسيع مناطق نفوذها وسيطرتها ، موظفة كل ما تملك من قدرات وامكانات
مادية وتقنية وعلمية وبشرية لتحقيق ذلك . وعندما انقسم العالم الى معسكرين .. غربي
بقيادتها وشرقي بقيادة الاتحاد السوفياتي ، تماهيا مع لغة الثنائية القطبية التي
وسمت المشهد العالمي منذ منتصف الاربعينيات وحتى بداية التسعينيات ، كاداة من ادوات
التنافس على الزعامة العالمية ، بدا ان كل طرف في هذه المعادلة الثنائية التنافسية
يسعى الى ترجيح كفته بأكبر ما يمكن جمعه من حلفاء ومناطق نفوذ لاحتوء الطرف الاخر
ومحاصرته وتضييق هامش المنافسة امامه والتفوق عليه . حيث دخلت دول العالم وقتها
خاصة في العالم الثالث في بحبوحة من المساعدات المالية والاقتصادية والعسكرية غير
المسبوقة من قبل قيادة المعسكر التي انضوت تحت لوائه في معادلة الثنائية القطبية ،
ترافق ذلك مع مظلة امنية ضمنت لها امنها واستقرارها في وجه اي اعتداء من اي من دول
الطرف الاخر . ولما كانت الغلبة في النهاية للمعسكر الغربي الذي تقوده الولايات
المتحدة ، ترجمة لقوتها ونفوذها وامكاناتها وقدراتها المادية الكبيرة التي تمتلكها
في سبيل الوصول الى هذا الهدف ، تحقيقا لمصالحها القومية والاستراتيجية في العالم
، وبالتالي بسط سيطرتها على المنظومة العالمية متربعة على عرش النظام الدولي ، فقد
حظي هذا الانجاز وهذا الانتصار باعتراف ( ومباركة ) بقية دول هذه المنظومة بما في
ذلك الخصم السوفياتي واتباعه في الحلف الشرقي الذي كان يقوده . وكان هناك ما يشبه
الاتفاق الدولي على هذه الزعامة الامريكية ، التي اتخذت شكل الاحادية القطبية .
وان كان ذلك مشروطا من بقية الدول بعدم اساءة هذه الاحادية . ووسط هذه الحالة من
التوافق والاعتراف بالهيمنة الامريكية وتفردها بقيادة المنظومة الدولية ، فقد امكن
للولايات المتحدة بسط نفوذها وهويتها وملامحها ( وطبعها ) على شكل هذه المنظومة
وتركيبتها وادواتها بما هي منظمات واتفاقيات وهياكل وعلاقات دولية ، وفقا
للسيناريو الذي رسمته ، وبما يتوافق ومصالحها . الامر الذي حرصت الادارات
الامريكية المتعاقبة على مراعته والمحافظة عليه ، احتراما والتزاما بمخرجات
الحرب الباردة ونتائجها التي تم الاعتراف والتوافق عليها من قبل جميع دول العالم .
وبقيت الامور على هذا الحال الى ان جاءت ادارة الرئيس الامريكي الاسبق بوش الابن ،
الذي عمد الى الاخلال بشروط الاتفاق الدولي من خلال اساءته للاحادية بغزوه
افغانستان والعراق تحت مسمى الحرب الوقائية او الاستباقية بحجج وذرائع واهية كانت
محل اعتراض الاسرة الدولية ورفضها . الامر الذي حاول الرئيس السابق باراك اوباما
تصويبه من خلال اللجوء الى ما يسمى الحرب بالوكالة وعدم الانخراط في حروب المنطقة
ومشاكلها . وصولا الى ادارة الرئيس الحالي ترامب ، الذي على ما يبدو قد تطوع
للانقلاب على الموروث القيادي الامريكي ، ممثلا بالتوافقات والتفاهمات التي تمت في
اعقاب انتصار بلاده في الحرب الباردة ، عندما عمد الى تفكيك الهياكل والادوات
والاليات والقواعد التي اقيم عليها النظام الدولي الذي تتربع الولايات المتحدة على
عرشه من خلال الانسحاب من بعض المنظمات والاتفاقيات الدولية ، حيث انسحبت من منظمة
اليونسكو ومجلس حقوق الانسان واتفاقية باريس للمناخ والاتفاق النووي الايراني (
بغض النظر عن الموقف منه ) واتفاقية الشراكة عبر الهادي واعادة النظر باتفاقية
الشراكة عبر الاطلسي واتفاقية التبادل الحر مع كندا والمكسيك ، والاعتراف بالقدس
عاصمة للكيان الاسرائيلي ونقل السفارة الامريكية اليها في تحد للقانون الدولي
والمرجعيات والقرارات الدولية التي تعتبر القدس مدينة محتلة ولا سيادة للكيان
الاسرائيلي عليها . اضافة الى دخول الولايات المتحدة في حرب تجارية مع الصين
والاتحاد الاوروبي وكندا واليابان وكوريا الجنوبية بفرضها رسوم جمركية على
الواردات خاصة الصلب والالمنيوم من هذه الدول ، التي قابلت هذا الخطوة بفرض رسوم
انتقامية على العديد من المنتجات والسلع الاميركية . اضافة الى توتر الاجواء
وشحنها وفقدان علاقة الثقة التي تربط امريكا بالاتحاد الاوربي على خلفية موقف
الرئيس ترامب من حلف الناتو ، الذي يرى بانه قد عفا عليه الزمن ، مطالبا دول
اوروبا بدفع مساهماتها المالية في الحلف والعمل على زيادتها ، وان عليها ان تدفع
لبلاده مقابل الدفاع عنها . ما حدا بدول الاتحاد الاوروبي الى التفكير
بانشاء جيش مستقل لتوفير مظلة امنية خاصة ، وعدم الاعتماد على المظلة الامنية
الامريكية نتيجة عدم التنبوء بقرارات الرئيس ترامب وسياساته ، حيث وصل به الامر ان
يعلن انسحاب قوات بلاده من سوريا بحجة انتهاء مهمتها بالقضاء على تنظيم داعش ، وهو
ما عارضته دول اوروبا وانتقدته ، خاصة فرنسا والمانيا وبريطانيا التي اعتبرت بان
المهمة الامريكية لم تنته وان هذا التنظيم لم يهزم ، وقد يعيد ترتيب صفوفه في
المنطقة من جديد . لتتواصل مفاجأت الرئيس ترامب بالاعلان عن انتهاء دور بلاده
كشرطي العالم في المنطقة خلال حديثه للجنود الامريكيين الذين التقاهم اثناء زيارته
السرية الاخيرة الى العراق ، بذريعة عدم خوض حروب نيابة عن دول اخرى ، تستعين
بالجيش الامريكي وتستخدمه لحمايتها والدفاع عنها دون ان تدفع مقابل . بما يمكن
اعتباره تراجعا او تنازلا مجانيا وطوعيا عن القيادة العالمية والحضور الامريكي في
اكثر من محفل او محطة خارجية ( منظمة او اتفاقية دولية ) ، هي بمثابة مركز ثقل
وقوة لبلاده ، متيحا المجال لقوى واطراف دولية اخرى من الحلفاء والشركاء وحتى
الخصوم لملء هذا الفراغ الذي تركته بلاده في اكثر من محطة ومنطقة . لدرجة انه قد
ابدى في فترة من الفترات عدم ممانعة بان يصبح الخصم (والعدو) الروسي التقليدي
تحديدا دولة عظمى ، مبديا استعداده لتعزيز العلاقات والتقارب والدخول معه في
مفاوضات على تقاسم مناطق نفوذ في مناطق مختلفة من العالم خاصة في منطقة الشرق
الاوسط .
من ذلك نستنتج ان الامور في الساحة
الدولية قد تكون مرشحة للمزيد من التأزيم والتوتر ، بطريقة قد تدفع بعض الاطراف
الدولية الفاعلة والمؤثرة الى التفكير جديا باعادة حساباتها واولوياتها وتحالفاتها
في اطار خارطة دولية جديدة متعددة الاقطاب ، بطريقة قد تدفع بالولايات المتحدة
مجبرة هذه المرة الى التخلي عن دورها كشرطي للعالم في مناطق مختلفة ، جراء المخاطر
والتهديدات التي باتت تحيط بالعديد من دول العالم على وقع تعدي الرئيس ترامب على
القواعد والضوابط والهياكل الدولية واخلاله بشروط الاحادية القطبية والقيادة
الدولية .