حسين الرواشدة
لا نتوقع من المسؤول -اي مسؤول- ان يصارحنا دائما بالحقيقة ، فقد يكون
ذلك فوق طاقته وخارج صلاحياته ، نريد منه فقط ان يمتلك حدا ادنى من “اللباقة” بحيث
لا يتجرأ على استهبالنا او استعباطنا او استفزازنا ، نريد منه ايضا ان يحترم عقولنا
ومشاعرنا ، فنحن مثله نعرف واجباتنا وحريصون على بلدنا ، واذا تعذر عليه ذلك فلا اقل
من ان يتحلى بنعمة الصمت ، فقد قيل فيما مضى (اذا كان الكلام من “تنك” فان السكوت من
ذهب) .
لدي -بالطبع - عشرات النماذج من التصريحات
والمواقف التي توزعت بين ما اشرت اليه من استعباط للناس او استفزازهم ، سواء تعلقت
بتعديل المناهج او بصفقة الغاز او بوقائع اخرى شكلت مادة دسمة لاهتمامات الناس وحراكاتهم
وانتقاداتهم ايضا ، لكنني استأذن القارئ الكريم بعدم اقتباسها او الاشارة اليها ، ليس فقط لانها اصبحت
معروفة ومتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي واخذت نصيبها من من التندر والسخرية ،
وانما ايضا لانني اشعر بالخجل من اعادة نشرها.
حين ندقق في الاسباب التي تدفع المسؤول
لكي يتجرأ على اهانة المجتمع بمثل هذه الخفّة ، او ان يتذاكى على الناس في وسائل الاعلام
وكأنهم لا يتمتعون بأدنى درجات الوعي والفهم والادراك ، نجد تفسيرين على الاقل ، احدهما
سياسي يتعلق بغياب مبدأ المحاسبة والمساءلة ، فالمسؤول عندها يتصرف كما يشاء ، ويخاطب
الناس كما يريد ، لانه مطمئن تماما الى ان العواقب ستكون سليمة، فليس بمقدور الجمهور
ان يفعل له شيئا ، وهو بالتالي لا يعبر فقط عن مواهبه السياسية في الهجاء والذم وفي
افحام خصومه من الناس وانما يستلهم ذلك من الجهة التي يتحدث باسمها، ويضرب بسوطها
.
اما التفسير الثاني فهو اجتماعي بامتياز
، لان المسؤول الذي ينتقل من موقع وجوده في المجتمع كفرد من افراده الى موقع حضوره
في موقع القرار يحاول ان يتقمص دور الفاعل والآمر والمخلّص ايضا ، فهو من جهة يخاطب
الجمهور من اعلى لاثبات قيمته الجديدة ، كما انه من جهة ثانية بحاول ان ينتقم من موروثه
الاجتماعي ويتبرأمن الجمهور الذي التصق فيما مضى به.
احيانا اشعر ان كثيرا من الامراض التي تعاني منها
مجتمعاتنا لا تحتاج الى ‘’ابداعات’’ سياسية بقدر ما تحتاج الى ‘’ابداعات’’ نفسية ولا
تحتاج الى منظرين في السياسة وانما الى خبراء في علم النفس والاجتماع ،فالاصرار على
الخطأ من خلال اهانة المجتمع يخرج غالبا من
رحم ‘’الاستعلاء’’ ويتناسل فيلد ‘’الاستعداء’’ ويتناسل مجددا فيلد ثقافة الكراهية والغاء
الاخر وحينها نشعر جميعا اننا امام ‘’حالة’’ غير مفهومة ، مرض جديد غير قابل للمعاينة
، ألغاز لا يمكن تأويلها او تفكيكها ، صراعات لا معنى ولا جدوى لها. جراحات عميقة في
‘’الذات’’ تحتاج الى زمن طويل حتى تندمل ، صمت ‘’مطبق’’ لا نعرف من اين جاء.. ولا متى
سينتهي.
ما يهمني هنا هو الاشارة الى مسألتين :
الاولى اعوجاج منطق بعض المسؤولين في بلادنا
، ذلك اننا كنا نتوقع - كما قلت سلفا- ان يبادر المسؤول حين تتعالى اصوات الناس بالاشارة
الى تقصيره الى تقديم استقالته ، ليس لان القانون يفرض عليه ذلك ، وانما انتصارا للمسؤولية
الادبية والاخلاقية التي يستند اليها في عمله وعلاقته مع المجتمع ، وبالتالي حين يسحب
اغلبية الناس ثقتهم بالمسؤول ويشهرون ذلك علنا فليس امامه الا الاستجابة لاصواتهم ،
وبعكس ذلك فانه يتعمد الاساءة لهم ولا يقيم وزنا لمنطق الخدمة العامة التي تستوجب مقايضة
الرضى بالانجاز، ولاننا للاسف لم نألف مثل غيرنا من الشعوب احترام المسؤول لارادة الناس
، لا عند التعيين ولا عند الاقالة ، فقد كنا نتوقع ان يتعلم المسؤولون في بلادنا درس
احترام مشاعر الناس ( دعك من احترام ارادتهم) ، ليس فقط لارضاء الخواطر او امتصاص الغضب
الناجم عن التقصير وانما من اجل الحفاظ على قيمة المسؤولية العامة واخلاقياتها وعلى
ثقة الناس بمؤسساتهم وبدولتهم ايضا.
تبقى المسألة الاخرى وهي ظاهرة استجدت على
مجتمعنا تتعلق بجرأة بعض المسؤولين على استفزاز الناس وعلى استعباطهم واستهبالهم ايضا
، ومن باب الانصاف فان لنا تجربة سياسية وادارية طويلة عكست نماذج لمسؤولين احسنوا
خطاب الناس وتعاملوا مع الرأي العام بمنتهى الاحترام والتواضع والتزموا في اقوالهم
وافعالهم بالاستقامة والنظافة وشجاعة الاعتراف بالخطأ، لكن ما شهدناه مؤخرا جاء في
عكس هذا الاتجاه تماما، واخشى ما اخشاه ان نكون بصدد عملية انقلابية على هذه النماذج
المعتبرة التي ما تزال محفوظة ومقدرة في ذاكرتنا، واننا امام “مدرسة” جديدة تريد ان تؤسس لحالة من التمرد على قيم احترام ارادة
المجتمع ومشاعره ، وان ما سمعناه هو جزء من صناعة نماذج الاساتذة في هذه المدرسة، وهؤلاء
المسؤولون الاساتذة للاسف نزلوا “بالبرشوت”
على مواقعهم ، وامنوا المساءلة والمحاسبة ، وبالتالي فلا عجب ان تصرفوا بمنطق” اصحاب” المزرعة وملّاكها لا بمنطق حراسها
او العاملين على خدمتها.
عن الدستور