بقلم: د. مصطفى البرغوثي*
عندما تعرض الشعب الفلسطيني للتهجير والنكبة عام 1948، ووجد مئات الآلاف أنفسهم في حالة فقر مدقع بعد أن فقدوا أراضيهم وبيوتهم ومحلاتهم ومصانعهم، وجه الفلسطينيون أبنائهم وبناتهم إلى التعليم فأبدعوا ، وغدوا بناة لدول ومؤسسات كثيرة في المنطقة بأسرها، وحموا في نفس الوقت عائلاتهم من شظف العيش وقسوة الفقر والتشرد، أما من بقوا في فلسطين الداخل فقد أدركوا بسرعة أن صمودهم في وجه التمييز العنصري وبقائهم في وطنهم يتطلب أن يوجهوا أجيالهم الشابة نحو التعليم .
ومنذ وقع الاحتلال للضفة والقطاع ، كان إنشاء المؤسسات الصحية والتعليمية والجامعات من أهم أشكال الصمود والمقاومة في وجه الاحتلال.
وعندما أغلق الإحتلال خلال الانتفاضة الشعبية الأولى الجامعات والمدارس صار التعليم الشعبي، رغم أنف الاحتلال، نموذجاً للمقاومة الشعبية .
غير أن التعليم لا يمكن أن يكون فعالا أو مقاوما ما لم يكن نوعيا.
و أكثر ما يقلقنا في هذه الأيام الحديث المتكرر حول تراجع نوعية التعليم، وكيفية ضمان أن يكون التعليم وخاصة التعليم الجامعي نوعيا وليس مجرد عملية تراكم كمي.
هناك ظاهرة عالمية، لا تقتصر على فلسطين ، بسبب إنحسار تمويل الجامعات وهيمنة الأساليب الرأسمالية الإستهلاكية ، تجعل الهم الرئيس منصبا على تأمين الموارد وبالتالي على رفع أعداد الطلبة في الجامعات على حساب النوعية.
و ينشأ هنا سؤال مشروع حول مدى ملائمة الكليات وفروع التعليم الجامعي الجديدة التي يجري انشاؤها لفرص العمل، حتى لا يتحول التعليم الى جسر نحو البطالة.
وما يقلقنا أكثر أن التحسن النوعي في سياسة وصياغة أساليب التدريس المدرسي والجامعي بالتركيز على البحث العلمي والأبحاث كمتطلب للنجاح، يترافق مع إنتشار ظاهرة خطيرة إسمها دكاكين البحث ، التي تبيع الأبحاث جاهزة للطلاب ، ليقوموا بتقديمها لأساتذتهم ومعلماتهم .
وذلك أمر خطير ليس فقط لأنه يعزز في المجتمع قيما خطيرة ومفسدة، بل لأنه يحول التعليم من وسيلة لبناء إنسان مبدع و مقاوم إلى وسيلة لخلق مخادعين لا يثقوا بأنفسهم و يبحثون عن أسرع الوسائل للكسب السريع دون إعتبار لمصالح الآخرين أو لمصالح وطنهم.
فشراء البحث العلمي هو شكل من أشكال الفساد، وتقديمه كإنجاز مزيف يعزز قيم الخداع والغش ، كما يشجع مرتكبيه على أن يكونوا كسالى وغير مبدعين وباحثين عن الإنجاز بأقصر وأدنى الطرق، على حساب زملائهم الذين يتعبون في إنجاز عملهم.
إجراء البحث العلمي يعلم الطالب أن يحترم نفسه ،وأن يحترم جهود الآخرين ، ويشجعه على تبني مفهوم الإتقان والإخلاص في العمل، وهو أمر نحتاجه كثيرا إن أردنا أن نحقق الحرية لشعبنا و أن نبني له وطنا، ولأبنائه مستقبلا.
سرقة الأبحاث ونسخها أمر خطير يجب أن تتصدى له المؤسسة التعليمية بكل قوة ، فمن يسرق بحثا يمكن أن يسرق عمل الأخرين في المستقبل ، بل وأن يسرق مقدرات بلده إن كان في موقع مسئول.
التعليم هو شكل من أشكال المقاومة والصمود فعلا شريطة أن يكون نوعيا وصادقا، ومنتجا لجيل صادق وقادر.
* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية