كامل النصيرات
اربط حزام العقل وتعالَ نتمشّى فوق ركام الصواريخ، فقد انطفأ
هدير المدافع وبقيت مكبّرات الصوت تعمل بنظام «كلُّنا فائزون». إسرائيل تحتفل
بـ«الأمن القومي المطلق»، وإيران ترفع راية «محور المقاومة»، وكلاهما يوزّع أوسمة
انتصار على شاشاته بينما الخرائط لا تزال تتثاءب من الدخان.
حربُ الرواية المضادّة ليست ابتكاراً جديداً؛ كلُّ طرفٍ يعرف
أنّ جمهوره يريد حلوى معنويّة بعد وجبة الخوف، فيبيعهم «صكَّ نصرٍ» مطبوعاً بحبر
السيادة وممهوراً بتوقيع التلفزيون الرسمي. هذا ما تسميه كتب السياسة «الاستثمار
في رأس المال الرمزي»: فائض من المعنويات يُحوَّل لاحقاً إلى أصواتٍ انتخابيّة أو
شرعيّة ثوريّة عندما يضيق الصدر.
ولكن لِنقلِّب دفتر الأرقام قبل أن يغرّد المايسترو: اثنا
عشر يوماً من القصف المتبادل، أكثر من ستمئة قتيلٍ في إيران وثمانية وعشرين في
الجانب الإسرائيلي، وغارات أمريكيّة «فوق العادة» على منشآت التخصيب. قيل لنا إنّ
البرنامج النووي «تبخّر»، ثم تسرّب تقريرٌ يُهمس بأنّ ما تبخّر فعلاً هو شهران لا
أكثر من جدول التخصيب. يا له من ردعٍ تكتيكي يشبه إغلاق متجر ليلتين لإعادة ترتيب
الرفوف!
هنا يطلُّ مفهوم الردع المرن: ضرباتٌ محسوبة ترفع كلفة
المواجهة من غير أن تجرَّ المنطقة إلى «قيامة» حقيقية. إسرائيل أطلقت أضخم قنابلها
الخارقة للتحصينات، وإيران ردّت بوابلٍ من صواريخ «فاتح» عابرة للمسارح، ثم توقّف
الطرفان عند حافة الهاوية؛ فالحربُ الحديثة تُدار على سُلَّم التصعيد درجةً درجة،
لا بقفزةٍ حرّة إلى الظلام.
أما الفصل الأكثر تشويقاً فكان في وادي الإعلام. كلُّ قناةٍ
شنّت حرب الإدراك من العيار الثقيل: الخرائط تُلوَّن على الهواء، و«خبر عاجل»
يتكاثر مثل الأرانب المحمّلة باليورانيوم، وخبراءٌ يطيرون بمصطلحات: القوة الصلبة،
القوة الناعمة، الحرب الهجينة، التفوّق الطيفي
بينما المواطن العادي يسأل جاره: «مين اللي فاز يا زلمة؟»
هنا نصل إلى معضلة التورّط العاطفي. أن تنحازَ لإيران هذا
أمرٌ وجداني مثل انحيازي الوجداني لها لانها ضربت إسرائيل اللقيطة؛ أمّا الانحياز
للحقيقة فأصعب، لأنّ الحقيقة عنيدة: لا تُطبع على قمصان ولا تُغنّى في
الاستوديوهات. الحقيقة تقول إنّ الطرفين خرجا مثقوبَين اقتصاديّاً ومُفتَّشين
استخبارياً. إيران مطالَبة بترميم سمعتها النوويّة، وإسرائيل مطالَبة بتفسير عجز
القبّة الحديديّة عن الوفاء بكل الوعود.
استعار بعض الساسة عبارة كلاوزفيتز عن «الضباب»، فحوّلوها إلى
ضبابيّةٍ مقصودة: كلُّ طرفٍ يُبقي تعريف النصر عائماً كي لا يُحاصَر بأسئلة
الميدان. تسمي كتب الاستراتيجية هذا الأسلوب تعويم الهدف: ختامٌ مطاطي يسمح
للجماهير بالتأويل وللحكومات بالهروب من التدقيق.
وربّما يكون الرابح الخفيّ هو أسواق الطاقة التي قفزت ثم استقرّت،
وتجّار السلاح الذين حجزوا طلبيات العقد المقبل، ومراكز الدراسات التي ستصدر غداً
تقريراً بعنوان «الدروس الخمس والثلاثون من حرب الاثني عشر يوماً». الأرباح تتلألأ
فيما الدموع تتبخّر.
وقفات ضرورية:
1.
النصر الحقيقيّ ليس ما يُقال على المنابر، بل ما يبقى بعد
انطفاء الكاميرات.
2.
الحرب الحديثة تشبه مباراة شطرنج تُقام على لوحٍ من المرايا:
كلّ حركة يراها الخصم مرّتين؛ واحدةً في الميدان وأخرى في البثّ المباشر.
3.
مَن أراد الحقيقة فعليه أن يرتدي خوذة المنطق لا درع
الأهواء، وإلّا بات «مشجّعاً مندفعاً» في دوريّ بلا قواعد.
فإذا سألك أحدهم: «مين انتصر؟» فقل له بابتسامتك الأردنيّة:
«المفاهيم السياسيّة ربحت أمّا البشر
فخسروا ساعات نومهم». ثم أطلق ضحكتك، واترك صكوك الانتصار الورقيّة لمن يبحث عن
أوسمةٍ في زمنٍ يتغيّر فيه المشهد بلمسةٍ على شاشة هاتف.