بقلم: د. اسعد عبد الرحمن
مجددا، يقف قطاع غزة وحيدا إلى درجة كبيرة في وجه الحصار الإسرائيلي، الذي يتعامل مع القطاع باعتباره مجموعة من الناس تدير أمورهم حركة "ارهابية"!!! فإسرائيل، تواصل الضغط العسكري على حركة "حماس"، مع الاستمرار في تجاهل الواقع الاقتصادي/ الاجتماعي المتدهور في القطاع، وهو ما أثار قلق مختلف قيادات المؤسسات الأمنية الإسرائيلية، التي نقلت صحيفة "هآرتس" تحذيرهم من "انهيار اقتصادي بحال تواصلت سياسة الإغلاق والحصار وعدم منح القطاع تسهيلات وإمداده بالكهرباء وكافة المستلزمات الخدماتية الحياتية والمعيشية"، كما أعربوا عن "القلق إزاء تداعيات وعواقب الضغط العسكري المستمر دون منح تنازلات"، وختموا: "اقتصاد قطاع غزة في حالة انهيار تام، مثل انخفاض من صفر إلى ناقص، ومعه حالة البنية التحتية المدنية. الوضع سيتدهور وقد تصل الأمور لمحاولة الآلاف اجتياز السياج الفاصل نحو إسرائيل، وهو سيناريو لا يمكن تجاوزه دون الوصول إلى التصعيد".
"الكارثة" التي يمر به قطاع غزة تشبه حالة "الموت السريري"اقتصاديا واجتماعيا وبنيويا وبيئة تحتية، والأمور تتجه لخطر انفجار غير قابل للسيطرة فالبطالة في ازدياد، والمشاكل الاجتماعية تتفاقم، والمصانع تتوقف، والحالة المالية تتراجع، والأمور تزيد بؤسا يوما بعد يوم. ومع كل هذا التدهور، جاء قرار الرئيس الأمريكي (دونالد ترمب) تقليص الدعم لوكالة الغوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" عقابا لموقف السلطة الفلسطينية الرافض قبول إملاءات واشنطن بشأن القدس. وقد كشفت ورقة حقائق أصدرتها الهيئة الدولية للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني "حشد" حول (واقع التنمية الاقتصادية المحلية في قطاع غزة)، من أن القطاع "يواجه العديد من التحديات والمشاكل التي تعيق القدرة على تحقيق تنمية إقتصادية حقيقية"، حيث بينت أن: "80% من سكان القطاع يعتمدون على المساعدات الدولية، وأكثر من 70% منهم يعانون من عدم وجود غذاء صحي أو آمن، فيما بلغت نسبة العاطلين عن العمل خلال الربع الثالث من العام 2017 نحو (243.800) عاطل عن العمل، بنحو 46.6 %". وأكدت ورقة حقائق أن "60% من المصانع وورشات العمل اضطرت إلى تقليص العمل أو الإغلاق منذ تطبيق الحصار، فيما تراجع معدل الاستثمار إلى الناتج المحلي الإجمالي من 17.6% ما قبل الحصار (2006-2008) إلى 2.1% في عام 2015"، وإن 78% من العاملين يقعوا ضمن فئة الموظفين بأجر بينما فقط 13.9% منهم يعملون لحسابهم الخاص، وهذا يشير إلى أن معظم فئات العمل الحر في قطاع غزة قد ادخلوا حيز الفقر والاعتماد على المساعدات".
الوضع في القطاع هو، فعلا، كارثي إذ يكاد يصل حد الانهيار، بل ويمكن اعتباره "منطقة منكوبة". وبحسب (أحمد الكرد) رئيس "تجمع المؤسسات الخيرية في القطاع": "العديد من المرضى توفوا أمام نظر عائلاتهم بسبب عدم توفر العلاج داخل المستشفيات في غزة، أو السفر للخارج، خاصة وأن هناك 13.000 حالة مصابة بمرض السرطان، في ظل نفاذ 230 صنفا من الأدوية والمستلزمات الطبية من مستودعات الوزارة، وتعطل الأجهزة الطبية بسبب منع سلطات الاحتلال إدخال قطع الغيار للصيانة"، مضيفا: "معبر رفح لم يعمل سوى 21 يوما في العام 2017".
لقد حذر المنسق الأممي الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط (نيكولاي ميلادينوف) من مخاطر استمرار الأوضاع الإنسانية والأمنية المتدهورة في قطاع غزة، منتقدا تعنت إسرائيل في مسألة الحصار، وهو ما تناوله أيضا بعض الكتاب والسياسيين ورجالات الأمن الإسرائيليين. فبعض هؤلاء الأخيرين تحرك بدافع إنساني، وبعضهم اعتبره يؤثر سلبا على سمعة وأمن إسرائيل، والبعض الثالث اعتبره طريقا لتشديد الضغوط على "حماس". وفي السياق، يقول الكاتب الإسرائيلي (عاموس هرئيل): "الأمراض المعدية لن تقف عند حاجز إيرز (بيت حانون)، وليس هناك أي تكنولوجيا يمكنها اكتشافها وتدميرها قبل اختراق الجدار في كرم أبو سالم حيث هي تصيب أيضا المواطنين الإسرائيليين. والسؤال هنا: هل ستعود حماس إلى استخدام السلاح ضد إسرائيل في حالة كهذه، وعندها سيكون ذلك هو أصغر المشاكل التي تواجهنا. قبل ذلك، إسرائيل من شأنها أن تواجه تحديات أكثر إلحاحا: كيف سيتم منع انتشار الأمراض في النقب، ماذا سيفعلون عندما تنهار المستشفيات في غزة أو عندما تصبح شبكة المياه غير قادرة على العمل، ماذا سيفعلون إذا وقف جمهور واسع من الفلسطينيين على بوابات إسرائيل في الجدار وتوسلوا لتقوم إسرائيل بإنقاذهم في أثناء أزمة إنسانية بحجم لم نجربه حتى الآن"!!! من جهته، قال المحلل (هارئيل ردا): "إن حجة اسرائيل ضد حماس، مثل الاستثمار المتواصل في اقامة العائق ضد الانفاق واكتشاف انفاق اخرى، لا يمكنها الغاء النقاش حول خطر الكارثة الانسانية المقتربة في القطاع. إن رد نتنياهو وليبرمان لن يقبله المجتمع الدولي". بالمقابل، حذر الرئيس الإسرائيلي (رؤوفين ريفلين) من احتمال حدوث ازمة إنسانية في القطاع قريبا، لكنه هاجم بنفس الوقت "حماس" متهما إياها بالمسؤولية لمنع أي تحسن بالأوضاع في القطاع. وقال (ريفلين): "اقتربت الساعة التي ستنهار فيها البنية التحتية في غزة وتترك وراءها الكثير من المواطنين في محنة، دون مرافق للصرف الصحي، مع تعرضهم لتلوث المياه الجوفية والاوبئة".
بعد 11 عاما من حصار إسرائيلي شامل، هو "جريمة حرب" مكتملة الأركان، يتضح أن بنية قطاع غزة الديموغرافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية ستكون بمثابة بركان جاهز للثوران. ومع تجذر أهلنا بالقطاع في أرضهم بقوة الانتماء وقوة ديكتاتورية الجغرافيا، من حقهم المقاومة بكل السبل المتاحة وهم – حقا – يفعلون، غير أن الخوف كل الخوف أن يكون تشديد الحصار ضمن مخطط أوسع لدفع أهلنا بالقطاع التعلق بأي خطة تطرح لاحقا في سياق "صفعة القرن" التي يروج لها (ترمب).