بقلم: د. اسعد عبد الرحمن
منذ تأسيس الكيان الصهيوني في العام 1948، حارب جيش "الدفاع" الإسرائيلي جيوشا عربية. ومع انسحاب ذلك "الكيان" من لبنان في العام 2000، أصبحت الحروب الإسرائيلية ضد شعب أعزل هنا، وشعب أعزل هناك. فالجندي الإسرائيلي، المحصن بعتاد عسكري مهول، لم يعد يواجه جنديا آخر! والجيش الصهيوني الذي "لا يقهر" بات اليوم يحارب أطفال فلسطين ولن يكون آخر ضحاياهم أولئك الذين ارتقى منهم شهداء وأسر آخرون في "معركة العاصمة – القدس" إثر إعلان الرئيس الأمريكي عن اعترافه بزهرة المدائن عاصمة لإسرائيل!
مجموعة من الشباب والشابات الإسرائيليين لخصوا سبب رفضهم القيام بالخدمة العسكرية الإلزامية في رسالة وجهوها مؤخراً إلى رئيس الحكومة (بنيامين نتنياهو) ووزير "الدفاع" (أفيغدور ليبرمان) ووزير التعليم (نفتالي بينت) ورئيس الأركان (غادي أيزنكوت) قالوا فيها: "نحن الشابات والشبان، نكتب هذه الرسالة لنعلن رفضنا القيام بالخدمة العسكرية في الجيش الذي يمارس عملياً سياسة رسمية عنصرية لا تحترم حقوق الإنسان الأساسية، ويطبق قانوناً معيناً على الإسرائيليين وقانوناً آخر على الفلسطينيين الذين يعيشون على الأرض عينها. لذا قررنا ألاّ نشارك في الاحتلال وفي قمع الشعب الفلسطيني، هذا الاحتلال الذي يفرّق البشر إلى معسكرين متخاصمين". وبعد هذه الرسالة بأسبوع، وإلى نفس القيادات، وجه عدد من الضباط وجنود الاحتياط في الوحدة الاستخبارية 8200 (سلاح الاستخبارات) رسالة أعلنوا فيها "رفضهم المشاركة في عمليات ضد الفلسطينيين، ولهذا لن يحضروا في المستقبل للخدمة الاحتياطية في هذا الميدان". وأضافوا: "لسنا قادرين من جهة الضمير على الاستمرار على خدمة هذا الجهاز والمس بحقوق ملايين البشر".
ربما تكون هاتان الرسالتان من أقوى وأحدث الأدلة على ما يموج في أعماق شابات وشبان إسرائيليون تجاه النزعة العسكرية المتجذرة في المجتمع الإسرائيلي، لكنهما – بالتأكيد - تشيران إلى مسألة خطيرة جدا. فالرسالة الأولى ركزت على ما تقوم به الدولة الصهيونية من دور في وعيهم الفكري عبر إعداد "أولاد إسرائيل ليكونوا جنودا في الحرب المقبلة"، فيما جيشهم الإسرائيلي يحارب أطفال فلسطين! أما الرسالة الثانية، فتركز على القصف العشوائي الذي يسقط جراءه ضحايا أبرياء بينهم أطفال، تماما كما كتب (اليئور ليفي) الذي أجرى مقابلات مع عدد من كاتبي الرسالة، فكتب يقول: "إن سياسة التصفيات تتبوأ مكانا مركزيا في عذابات ضمائر الموقعين بسبب حقيقة أنه تتم مرارا أخطاء تودي بحياة أبرياء، بل أولاد صغار أحيانا... نحن نُهييء المعلومات الاستخبارية للعملية، ونقوم بتسمية وتحديد الشخص وننقل المعلومة إلى سلاح الجو. ذات مرة لاحظنا أمرا مُريبا بالقرب من مخزن وسائل قتالية في غزة وظننا أنه هدفنا. وقع الانفجار وانقشع الدخان وجرت أمه نحوه واستطعنا أن نرى آنذاك أنه ولد صغير فقد كانت الجثة صغيرة، وأدركنا أننا فشلنا".
في مقال بعنوان "خاسر مسبقا"، كتب (أوري سفير) أحد مؤسِّسي مركز بيرس للسلام ورئيس طاقم المفاوضات لاتفاق أوسلو والوزير الإسرائيلي الأسبق، يقول: "في العالم كله لا يمكن لجيش ما أن ينتصر على أطفال، لا في الواقع ولا من حيث الوعي. هذه معركة خاسرة مسبقا يجب الامتناع عنها". ويتناول (ديفيد زونشاين) رئيس الهيئة الإدارية في مركز "بتسيلم" (المركز الإسرائيلي للمعلومات عن حقوق الإنسان في الأراضي المحتلة) في مقال قصة (عهد التميمي) كمثال لأطفال فلسطين، ويقول: "مدججون بأفضل السلاح من رؤوسهم حتى أخمص أقدامهم ومستعدون دائماً للهجوم، هكذا وقف الجنود الإسرائيليون في قرية "النبي صالح" في مواجهتها. إنها المواجهة بين روحية البطولة الإسرائيلية وبين شابة ليست مواطنة ولا مقاتلة، ابنة شعب لا يملك جيشاً، تواجه بجسدها فقط من دون سلاح". ويضيف: "خسارة هذه الروحية في هذه المواجهة تشكل خطراً على استعداد الجنود للتجنّد دفاعاً عن نظام الفصل العنصري، حتى لو كانت هذه الخسارة وهمية مثل روحية البطولة نفسها. وهذا هو السبب العميق وراء وجود عهد التميمي في السجن". وفي السياق، كتب (جدعون ليفي) يقول: "إن شهوة الانتقام المجنونة ضد التميمي لها أسباب أخرى. الفتاة من النبي صالح قامت بتحطيم عدة أساطير لإسرائيل. والأخطر من ذلك أنها تجرأت على المس بأسطورة البطولة الإسرائيلية. فجأة يتبين أن الجندي البطل الذي يقوم بحمايتنا صبح مساء بجرأة وشجاعة، يقف أمام فتاة ليس في يديها شيء. وماذا بالنسبة للماسوشية التي حطمتها التميمي بسهولة، وماذا بالنسبة لهرمون الذكورة"؟!!! ويضيف: "التميمي بطلة، بطلة فلسطينية، نجحت في إصابة الرأي العام الإسرائيلي بالجنون. يا ليت هناك العديدين مثلها. ربما تنجح فتيات مثلها في إيقاظ الإسرائيليين. ربما انتفاضة الصفعات ستنجح في المكان الذي فشلت فيه كل وسائل المقاومة الأخرى، العنيفة وغير العنيفة".
إن ظاهرة إعدام واعتقال الاطفال سياسة إسرائيلية ممنهجة متصاعدة. وقد كشف رئيس "هيئة شؤون الأسرى والمحررين" (عيسى قراقع) أن "الهيئة" رصدت "اعتقال نحو 1467 طفلا فلسطينيا العام الماضي وأن نصيب مدينة القدس المحتلة كان حوالي 800 طفل وشمل اعتقال 54 طفلا دون 12 عاما حيث كان أصغر المعتقلين طفلا عمره 6 سنوات من حي سلوان وآخر من حي شعفاط بالقدس وعمره 7 سنوات". وفي هذا النطاق، جاءت دعوة عضو مجلس النواب الأمريكي (بيتي مكولوم) إلى "عدم استخدام أموال دافعي الضرائب في الولايات المتحدة لدعم القوات الإسرائيلية التي تعتقل الأطفال الفلسطينيين". وبالمقابل، فإن ظاهرة الأطفال الذين يتقدمون مواجهة جنود الاحتلال تحمل كثيرا من الرمزية: فهي - أولا - تكشف وجه الاحتلال الذي يقاتل الأطفال، وهي – ثانيا - تظهر لكل من له بصيرة قوة منطق الحق في مواجهة الظلم وفضحه أما العالم.