بقلم: صبحي غندور*
لا أعلم لماذا كان البعض ينتظر من بريطانيا أن تعتذر عن خطيئتها التاريخية في وعد بلفور المشؤوم الذي حصل قبل مائة عام في 2 نوفمبر 1917، وهي التي ترى الفلسطينيين والعرب الآن منشغلون في صراعات داخلية ولا يستخدمون أي وسائل ضغطٍ على بريطانيا أو غيرها للأعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني أو لإدانة ما قامت به دول استعمارية قبل قرنٍ من الزمن!.
ولعلّ ما يفيدنا كعرب في مراجعة ما حدث منذ قرنٍ من الزمن هو هذا التشابك الذي حصل في مطلع القرن الماضي بين نتائج الحرب الأولى وخضوع المنطقة العربية للاستعمار الأوروبي، وبين ظهور الحركة الصهيونية بعد تأسيسها في مؤتمرٍ بسويسرا عام 1897.
الأرض العربية تشهد الآن جملة تحوّلاتٍ سياسية شبيهة بما حدث منذ مائة عام تقريباً بعد ما أفرزته الحرب العالمية الأولى من نتائج، في ظلّ ما كان يُعرف تاريخياً بمصطلحات بدأت مع تعبير "المسألة الشرقية" وانتهت بتعبير "وراثة الرجل التركي المريض".
فقد حصلت في تلك الفترة مراهناتٌ عربية على دعم الأوروبيين لحقّ العرب المشروع في الاستقلال وفي التوحّد بدولة عربية واحدة. وسُمّيت تلك المرحلة ب"الثورة العربية الكبرى"، وهي ثورة قام بها الشريف حسين حاكم مكّة عام 1916 ضدّ الدولة العثمانية بدعمٍ من بريطانيا، خلال الحرب العالمية الأولى. لكن هذه المراهنة العربية على "الوعود البريطانية" لم تنفّذ طبعاً. بل ما حصل هو تنفيذ بريطاني لوعدٍ أعطاه آرثر بلفور باسم الحكومة البريطانية (نوفمبر 1917) للحركة الصهيونية بمساعدتها على إنشاء "وطن قومي يهودي" في فلسطين. فما بدأ كثورةٍ عربية مشروعة في أهدافها انتهى إلى ممارسات وظّفتها القوى الأوروبية لصالحها، كما استفادت الحركة الصهيونية منها فنشأت "دولة إسرائيل" ولم تنشأ الدولة العربية الواحدة!.
"حكاية" المنظمة الصهيونية العالمية.. كيفية نشأتها.. والدعوة إلى الإستفادة عربياً من تجاربها وأساليبها..، أصبحت قصة معروفة جداً وسط الشارع العربي. لكن المهم في هذه "الحكاية" المتكررة دائماً على أسماعنا، أنها ليست فقط مجرد حكاية بل إنها سيرة من فرض علينا ـ نحن العرب ـ وعلى العالم أجمع، أن نقبل الآن بكل ما كان مستحيلاً في السابق. و"المستحيل" هنا تحقق على مراحل وليس دفعة واحدة. إذ يكفي أن نراجع تاريخنا العربي الحديث والمعاصر لندرك أن كل عقد تقريباً من القرن الحالي تضمن فرضاً لأمر صهيوني واقع علينا وعلى الأمم كلها.
"المنظمة الصهيونية العالمية" احتفلت هذا العام بمرور 120 سنة على وجودها وعلى دورها المستمر بنجاح وتفوق. ففي عام 1897، انعقد المؤتمر الأول (برئاسة ثيودور هيرتسل) في مدينة بال بسويسرا، وضم مجموعة من كفاءات يهودية منتشرة في العالم، وحينها دعا هيرتسل المشاركين إلى وضع خطط استراتيجية ومرحلية تؤدي إلى وجود دولة إسرائيل بعد 50 عاماً! وقد تحقق ذلك فعلاً بعد 50 عاماً أي عام 1947.
ثم كان النصف الثاني من عمر المنظمة الصهيونية مسخراً من اجل تكريس الاعتراف العالمي والعربي (والفلسطيني تحديداً) بهذا الكيان وبتفوقه!!
والملفت للانتباه، أن تاريخ نشأة المنظمة الصهيونية وظرف تأسيسها، كان متشابهاً مع حال وظروف الكفاءات العربية والإسلامية آنذاك التي كانت مضطرة إلى العيش خارج أوطانها وتطمح وتحلم بنهضة عربية وإسلامية جديدة (الشيخ محمد عبده في فرنسا، جبران والرابطة القلمية في أميركا الشمالية .. الخ).
لكن الفرق بين الحالتين أن صاحب دعوة الحق لم تنفعه فقط أحقية دعوته (أصحاب الدعوة للنهضة العربية) بينما الطرف الآخر (رغم بطلان دعوته وعدم أحقيتها في اغتصاب وطن شعب آخر) كان أكثر تنظيماً وأفضل تخطيطاً لمراحل التغيير المطلوب على الأرض، إضافة طبعاً إلى توفر ظروف دعم ومساندة ضخمة من قوى عالمية كبيرة.
ماذا يعنينا - نحن العرب - من كل ذلك الآن؟
في الواقع، نحن المعنيون الأُول، ماضيا وحاضراً ومستقبلاً، بكل ما تخطط له وتفعله المنظمة الصهيونية العالمية، حتى لو سيطر علينا السأم والملل من تكرار هذا الكلام.
نحن العرب لا نحتاج إلى إدراك مخاطر ما تفعله المنظمة الصهيونية، حتى نتحرك وننهض ونصحح أوضاعنا السيئة في أكثر من مجال لا علاقة له بالوجود الصهيوني .. لكن نحن العرب نحتاج إلى الأخذ بالأسلوب العلمي في عملية النهوض والتصحيح، تماماً كما أخذت به المنظمة الصهيونية، ولم تخترعه، يوم تأسست وخططت ثم نفذت.
عناصر هذا الأسلوب العلمي متوفرة في أي مجتمع أو شعب، وهي تقوم على الجمع ما بين نظرية فكرية وبين خطط استراتيجية لمدى طويل، وبين خطط عملية مرحلية متنوعة من أجل تنفيذ الاستراتجيات.. فأين نحن العرب من ذلك؟ وأين هي النظرية الفكرية التي تلتقي حولها الكفاءات العربية، والتي على أساس هذه النظرية تبني الاستراتيجيات وتحققها؟ بل أمام تعذر وجود ذلك على المستوى الرسمي العربي (بحكم تعدد الحكومات وخلافاتها)، أين هذا الأمر على المستوى المدني العربي، وفي الحد الأدنى، أين هو وسط الكفاءات العربية المهاجرة والمنتشرة في كل العالم؟!
إن حسم الثوابت الفكرية بين الكفاءات العربية أينما كانت، وحسم الهوية العربية بمضمونها الحضاري في هذه الثوابت الفكرية، هو المدخل الرئيس لبناء نهضة عربية نحتاج إليها الآن أكثر من أي وقت مضى!
فالفتن الداخلية العربية الجارية الآن في أكثر من مكان، لا يمكن عزلها عن الصراع العربي/الصهيوني على مدار مائة عام. إذ لم يكن ممكناً قبل قرنٍ من الزمن تنفيذ "وعد بلفور" بإنشاء دولة إسرائيل دون تقطيع الجسم العربي والأرض العربية، حيث تزامن الوعد البريطاني/الصهيوني مع الاتفاق البريطاني/الفرنسي المعروف باسم "سايكس- بيكو" والذي أوجد كياناتٍ عربية متصارعة على الحدود، وضامنة للمصالح الغربية، ومسهّلة للنكبة الكبرى في فلسطين. فلا فصل إطلاقاً بين معارك التحرّر الوطني من المستعمر الغربي التي جرت في البلاد العربية وبين الصراع العربي/الصهيوني. ولا فصل أيضاً بين أيِّ سعي لاتّحاد أو تكامل عربي، وبين تأثيرات ذلك على الصراع العربي/الصهيوني.
ما يحدث اليوم على الأرض العربية هو تتويجٌ للحروب التي خاضتها الحركة الصهيونية على مدار المائة سنة الماضية. فالاعتراف الدولي بإسرائيل، ثمّ الاعتراف المصري/الأردني/ الفلسطيني بها، بعد معاهدات "كامب ديفيد" و"أوسلو" و"وادي عربة"، ثمّ "تطبيع" بعض الحكومات العربية لعلاقاتها مع إسرائيل، كلّها كانت غير كافية لتثبيت "شرعية" الوجود الإسرائيلي في فلسطين، وللتهويد المنشود للقدس ومعظم الضفة الغربية، فهذه "الشرعية" تتطلّب قيام دويلاتٍ أخرى في محيط "إسرائيل" على أسس دينية أيضاً، كما هي الآن مقولة "إسرائيل دولة لليهود". فما قاله "نتنياهو" بأنّ (المشكلة مع الفلسطينيين هي ليست حول الأرض بل حول الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية) يوضّح الغاية الإسرائيلية المنشودة في هذه المرحلة من المتغيّرات السياسية العربية الجارية الآن في مشرق الأمَّة العربية ومغربها. فكلّما ازدادت الصراعات الطائفية والمذهبية والإثنية على الأرض العربية، كلّما اقترب الحلم الصهيوني الكبير من التحقّق في أن تكون إسرائيل هي الدولة الدينية الأقوى في منطقةٍ قائمة على دويلاتٍ طائفية. فالمراهنة الإسرائيلية هي على ولادة هذه "الدويلات" التي بوجودها لن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلة، ولا تقسيمٌ للقدس، ولا عودة الملايين من اللاجئين الفلسطينيين، بل توطينٌ لهم في "الدويلات" المستحدثة وتوظيف سلاحهم في حروب "داحس والغبراء" الجديدة.!
فكم هو جهلٌ مثيرٌ للتساؤل الآن حينما يتمّ استبعاد الدور الإسرائيلي في تفاعلات داخلية تحدث في عدّة أوطان عربية، وحينما لا ينتبه العرب إلى المصلحة الإسرائيلية الكبرى في تفتيت أوطانهم وفي صراعاتهم العنفية تحت أيِّ شعارٍ كان. فأمن إسرائيل يتحقّق (كما قال أحد الوزراء الإسرائيليين بعد حرب 1967) "حينما يكون كره العربي للعربي أكثر من كرهه للإسرائيلي". ثم كم هو نكرانٌ لوقائع حدثت في حروب أهلية عربية معاصرة، كالحرب الأهلية اللبنانية، حينما كان الدور الإسرائيلي فاعلاً فيها على مدار 15 سنة، ثم استمرّ بعد ذلك عبر عملاء على كلّ الجبهات السياسية اللبنانية. أليس ذلك ما حدث ويحدث أيضاً من تدخل إسرائيلي سافر في الأحداث الجارية لسنوات داخل سوريا والعراق ومن علاقات علنية بين إسرائيل وبعض الجهات المتورطة في ازمات هذين البلدين؟!.
إنّ نشوء الدويلات الدينية الجديدة في المنطقة سيدفع هذه الدويلات إلى الصراع مع بعضها البعض، وإلى الاستنجاد بالخارج لنصرة دويلة على أخرى، وإلى إقامة تحالفات مع إسرائيل نفسها، كما حصل أيضاً خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، وكما فعلت ذلك الآن بعض قوى المعارضة السورية.
وحينما تنشأ هذه الدويلات، فإنّها ستحتاج إلى زيادة ديمغرافية في عدد التابعين لهذه الطائفة أو ذاك المذهب، ممّا سيسّهل حتماً مشروع توطين الفلسطينيين في لبنان وسوريا والعراق وبعض دول الخليج العربي. وفي ذلك "حلٌّ" لقضية "اللاجئين الفلسطينيين"، تُراهن أيضاً إسرائيل عليه.
وفي حقبة "الصراعات الدموية العربية"، تواصل إسرائيل بناء المستوطنات في القدس والضفة، وستزيد من درجة الضغوط على فلسطينييّ 1948 لتهجير ما أمكن منهم ربما إلى "دويلات" تحتاجهم عدداً، بل قد يكون ذلك، بالتخطيط الإسرائيلي، الوقت المناسب لجعل الأردن "الوطن الفلسطيني البديل" مع أجزاء من الضفة الغربية.
إسرائيل بمختلف حكوماتها راهنت على تجزئة المجزّأ عربياً، وشجّعت كل الحركات الانفصالية بالمنطقة كالتي قامت في جنوب السودان وفي شمال العراق، وأقامت إسرائيل "دولة لبنان الحر" على الشريط الحدودي لها مع لبنان في ربيع العام 1979 كمدخل لمشاريع التقسيم الطائفي الذي أعدّت له منذ حقبة الخمسينات من القرن الماضي.
فإسرائيل التي رفضت وترفض قرار تقسيم فلسطين (رقم 181)، وهو الاسم الذي أطلق على قرار الجمعية العامة التابعة لهيئة الأمم المتحدة والذي أُصدر بتاريخ 29 نوفمبر 1947، هي نفسها التي عملت وتعمل على تقسيم البلاد العربية، إذ أنّ قرار تقسيم فلسطين يعني إعلان حدود دولية للدولة الإسرائيلية، ووجود دولة فلسطينية مستقلّة على ما هو أـشمل بكثير من الضفة الغربية وغزّة، كما يعني وضع مدينة القدس وجوارها تحت الوصاية الدولية، وهي أمور كلّها مرفوضة من كلّ الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة.
إنّ ما يحدث الآن في داخل أوطان من مشرق الأمّة ومغربها، وفي عمقها الإفريقي، هو دلالة هامّة على نوع وحجم القضايا التي تعصف لعقودٍ طويلة بالأرض العربية، وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان
وحبّذا لو يُدرك هؤلاء العرب الذين يستنجدون بالأجنبي لنصرتهم أنّهم يعيدون بذلك فتح أبواب الأوطان العربية للنفوذ الاستعماري، ولإعادة حقبة "المستعمرات العربية" التي أسقطتها ثورات عربية تحرّرية حقيقية في منتصف القرن الماضي، بعد عقودٍ من النضال الوطني امتدّ من المغرب إلى جزائر المليون شهيد، إلى تونس، إلى ليبيا عمر المختار، إلى مصر عبد الناصر، إلى عدن والعراق وسوريا وفلسطين ولبنان. فتلك كانت ثورات جادّة من أجل أوطانها وشعوبها، وأدّت إلى توحيد شعوبها وإلى تعزيز الهويّة العربية المشتركة، بينما "الثورات العربية الحديثة" نفخت في بوق التدخّل الأجنبي وسهّلت عودة القوى العسكرية الغربية التي كانت تحتلّ الأرض العربية وتستنزف ثرواتها.
لكن إنصافاً للحقيقة، فإنّ معارك التحرّر الوطني في القرن العشرين لم تصل نتائجها إلى بناء مجتمعات حرّة يتحقّق فيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية السليمة في الحكم وفي صنع القرار. وبسبب ذلك، كان سهلاً حدوث التدخّل الإقليمي والدولي في القضايا الداخلية العربية وعودة مشاريع الهيمنة الأجنبية من جديد. ربّما هي سمةٌ مشتركة بين عدّة بلدان عربية أنّ شعوبها نجحت في مقاومة المستعمر والمحتل ثمّ فشلت قياداتها في بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة.
المنطقة العربية تعيش الآن مرحلة سقوط "النظام العربي الرسمي المريض" في ظلّ تضاعف الاهتمام الدولي بموقع المنطقة وثرواتها، وبوجود تأثير كبير ل"دولة إسرائيل" على أحداثها وعلى القوى الدولية العظمى في هذه الحقبة الزمنية. هي مرحلةٌ لا يمكن الدفاع فيها عن واقع حال "النظام العربي الرسمي المريض" أو القبول باستمرار هذا الحال، لكن التغيير المنشود ليس مسألة أهداف وشعارات فقط، بل هو أيضاً فكر وبرامج وقيادات وأساليب سليمة وتمييز دقيق في المراحل والأجندات والأولويات والصداقات، وهي كلّها عناصر لم تتوفّر عربياً بعد!.
رغم ذلك، فإنّ الدول الكبرى التي سيطرت في القرن الماضي أو تهيمن الآن على المنطقة العربية، غاب عنها درس تاريخ البشرية عموماً، وليس فقط محصّلة مائة عام في تاريخ المنطقة، بأنّ الشعوب يمكن تضليلها أو قهرها أو احتلالها لفترةٍ من الوقت، لكن هذه الشعوب لا يمكن أن تقبل بديلاً عن حرّيتها، وبأنّ الأوطان العربية لو تجزّأت سياسياً فهي موحّدة في ثقافتها وفي تاريخها وفي همومها وفي آمالها. فهكذا كان تاريخ المنطقة العربية طيلة القرن الماضي: كرٌّ وفرّ مع المستعمر أو المحتل لكن لا خضوع له. كما كان القرن الماضي حافلاً بالحركات والانتفاضات الشعبية المؤكّدة على وحدة الأمَّة أرضاً وشعباً، وإن ازدادت المسافات بين الحكومات والكيانات بعداً.
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن