بقلم: د. ناصر الصوير
السيدة تيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانية / لقد أعلنتِ مؤخراً خلال جلسة لمجلس العموم البريطاني أن بريطانيا ستحتفل بفخر واعتزاز بالذكرى المئوية لصدور وعد بلفور، وقلتِ : " إننا نشعر بالفخر من الدور الذي لعبناه في إقامة دولة "إسرائيل" ، وضربتِ بعرض الحائط جميع المطالبات الفلسطينية الرسمية بالاعتذار عن هذا الوعد المشئوم والاعتراف بدولة فلسطين. ومن هذا المنطلق دعيني أن أكتب لكِ هذه الرسالة التي كم أتمنى أن تقرئيها بعقل وقلب مفتوحين:
يا رئيسة الوزراء/ قبل مائة عام بالتمام والكمال أي قبل مولدك بعدة عقود أصدرت حكومة بلدك وعد بلفور الذي يعتبره اليهود أحد أهم المراحل في مسعاهم للسيطرة على فلسطين، وفي المقابل يصفه الفلسطينيون " بالوعد المشئوم" ، ويعتبرونه اللبنة الأولى التي أسست لنكبتهم، ويرونه دليلاً على تآمر بريطانيا ضدهم، هو تصريح رسمي جاء على شكل رسالة وجهها وزير خارجيتها آرثر جيمس بلفور (Arthur James Balfour) بتاريخ2/11/1917مـ، إلى اللورد روتشيلد بصفته رئيس الاتحاد الصهيوني العالمي، وجاءت الرسالة بالنص التالي: " عزيزي اللورد روتشيلد، إن حكومة جلالتها تنظر بعين العطف والارتياح إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وسوف تعمل كل ما في وسعها من أجل تحقيق هذا الهدف، وليكن معلوماً بوضوح أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية والدينية للطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، أو الحقوق والأوضاع السياسية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى".
لقد أسهم هذا الوعد في تمكين أقلية أجنبية غاشمة من الغرباء(اليهود الصهاينة) من طرد وتشريد الأغلبية الوطنية(الفلسطينيون) صاحبة الأرض من ديارها، وإزالة أثارها الطبيعية والثقافية بدعم مادي وسياسي وعسكري الدول الاستعمارية وخصوصاً بريطانيا التي سعت مستميتةً لتنفيذ وعد بلفور بادعاء أن هذا نصر للحضارة وتحقيق لإرادة إلهية ؛ مع العلم أنه لم يحدث أو على الأقل في التاريخ الحديث أن أقيمت دولة على أرض لا تملك فيها الأقلية إلا8 % منها، مثلما أقيمت دولة الكيان الصهيوني"إسرائيل" على أشلاء(531 مدينة) وقرية فلسطينية، تم تشريد سكانها الأصليين ليتحولوا بسبب هذه المؤامرة الكبرى من أصحاب حق وأرض إلي لاجئين مشردين في المنافي والشتات، فيما ينعم الغزاة المستوطنون من الصهاينة اليهود الذين قدموا من أصقاع الأرض البعيدة بأرض ليست بأرضهم، وبوطن ليس بوطنهم.
لقد كان تهجير وتشريد الفلسطينيين من أرضهم جزءاً من إستراتيجية الدول الاستعمارية التي وقفت بريطانيا على رأسها والمنظمات الصهيونية، المختلفة بمسمياتها، المتفقة بأهدافها تنفيذاً لوعد بلفور، فكل ما اتخذته بريطانيا وهذه الدول والمنظمات من خطوات جاء نابعاً من رغبتها بالاستيلاء على فلسطين وطرد شعبها، ولقد لعبت بريطانيا وهذه الدول وهذه القوى معززة بدعم الهيئات الدولية (عصبة الأمم ثم هيئة الأمم المتحدة) دوراً محورياً في وقوع النكبة، من خلال تشجيعها وإذكائها للمشروع الصهيوني في فلسطين، وتواطئها لارتكاب هذه الجريمة، وإضفاء الشرعية على سلب ونهب واغتصاب اليهود للأرض الفلسطينية، وتشريد أصحابها.
رئيسة الوزراء/ للأسف لم تكتف بريطانيا التي كانت لها اليد الطولى في نكبة الشعب الفلسطيني بإصدار هذا الوعد المشئوم بل انحازت طيلة سنوات احتلالها ثم انتدابها لفلسطين(1918-1948م)، لليهود وسعت بصورة مستميتة وبكل قوتها لتحويله من مجرد وعد إلى حقيقة فعلية على الأرض من خلال جرائم لا يصدقها العقل ولا يستوعبها المنطق ضد الشعب الفلسطيني وأرضه، اقترفها الانتداب البريطاني الذي جثم في فلسطين ثلاثين عاما متواصلة، ولم يتركها إلا وهي ضائعة منكوبة وشعبها مشرد في أصقاع الأرض وإلى يومنا الراهن. لقد اقترفت بريطانيا لتحقيق هذا الوعد الظالم الذي أعطاه من لا يملك لمن لا يستحق جرائم كبرى في مقدمتها حق انتزاع الأراضي الفلسطينية، وبدعم وتشجيع الهجرة اليهودية، ودعم وتشجيع المشروعات الاقتصادية اليهودية على أرض فلسطين. كما قامت على مدار ثلاثين عاماً بقمع الشعب الفلسطيني . حتى عندما أعلنت بريطانيا عن عزمها الانسحاب من فلسطين، بحجة أنها تريد إنهاء الانتداب وإعطاء الأمم المتحدة حرية القرار بشان مستقبل فلسطين السياسي انحازت بصورة صارخة لليهود، فقامت بسحب قواتها من الأحياء والمناطق الخاضعة لليهود بدءاً من 19/2/1947م، بينما غادرت المناطق العربية في15/5/1948م، وذلك لتمكن الحركة الصهيونية من فرض سيطرتها على أكبر مساحة ممكنة من فلسطين، وقامت القوات البريطانية أيضاً بالسماح للمنظمات اليهودية الصهيونية بالتسلح حتى آخر لحظة وسلمتها مئات الآليات والمدافع الثقيلة وعشرات المواقع العسكرية بكامل إمكاناتها وقدراتها القتالية بما في ذلك المطارات والمعسكرات والخطوط الدفاعية، وعلى رأسها خط الاستحكامات البريطاني على الحدود الشرقية الشمالية لفلسطين، وفي المقابل رفضت السماح للعرب بالتسلح ومنعت وصول الأسلحة للمناطق العربية ؛ بل شنت على الأحياء والمناطق العربية آلاف المداهمات والحملات التفتيشية لجمع الأسلحة من أيدي المقاتلين الفلسطينيين، وقد استمر هذا الوضع الظالم والمنحاز حتى آخر لحظة من عمر الانتداب البريطاني في فلسطين.
رئيسة الوزراء/ مما لا شك فيه أن السياسة البريطانية في فلسطين المنحازة بصورة صارخة لليهود تعتبر من أهم الأسباب التي أدت إلى وقوع النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني واكتوى بنارها ولازال حتى وقتنا الحاضر، فلو أرادت بريطانيا أن تكون طرفاً نزيهاً بين الفرقاء، وأرادت خدمة المنظمة الدولية أو تحقيق أهداف الانتداب المعلنة فعلاً لما أعلنت الانسحاب بهذا الشكل المفاجئ، ولانتظرت صدور قرار إعفائها من الانتداب من الجهة التي منحتها هذا الحق، ولشاركت في خطة دولية تقررها المنظمة الأممية لتطبيق هذا الانسحاب، ولكنها بقيت منذ احتلالها لفلسطين عام 1918م، وحتى اللحظات الأخيرة للانتداب منحازة لليهود على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
ختاما يا سيدة تيريزا ماي بعد كل هذا الإجرام الذي ارتكبته بريطانيا بحق فلسطين وشعبها تتشدقين بأن حكومتك ستحتفل بفخر واعتزاز بذكرى إصدار هذا الوعد الكارثي المشئوم، مع أن العدالة والإنصاف يستوجب من بريطانيا طلب العفو من كل فلسطيني على وجه الكرة الأرضية.