بقلم: د. أسعد عبد الرحمن
هدأ الغبار قليلا في ظل الاعتبار الواعي من قبل البعض بأن الفلسطينيين انتصروا في معركة من معارك متوقعة في سياق “حرب المسجد الأقصى” الدائرة منذ فترة ليست قصيرة والمرشحة بأن تكون حربا طويلة. ولقد أعادت المعركة الأخيرة القضية الفلسطينية بصفة عامة، وقضية القدس خاصة، إلى صدارة المشهدين الإقليمي والدولي. بالمقابل، حكومة (بنيامين نتنياهو)، الأكثر تطرفا بين الحكومات الإسرائيلية منذ 1948 حتى اليوم، لم تتوقف في مساعيها لتهويد كل محيط الأقصى والقدس، مع تزايد ارتفاع أسهم اليمين المتطرف في الشارع الإسرائيلي. وعليه، ما زال الوضع القائم قابلا للعودة إلى مربع التصعيد.
لطالما أثبتت الدولة الصهيونية أنها تستخرج العبر والدروس من خسائرها التي تمر بها. وبما أنها تدرك أن الحرب لم تنته بعد، وأن الانتصار الفلسطيني في أحدث معارك الأقصى ليس نهاية المطاف، لذا رأيناها تسارع إلى مضاعفة عمليات القمع من اعتقال وهدم ومداهمات في الأحياء العربية في القدس المحتلة فيما “تتعاظم” أعداد مقتحمي الأقصى من قبل المستعمرين/ “المستوطنين” بدعم قوات الاحتلال، بل هي تسرع في استكمال توسيع المستعمرات/ “المستوطنات” التي تحيط بالقدس كلها. وعلى خط مواز، نرى الدولة الصهيونية تلح في الحديث عن ضرورة “المفاوضات المباشرة” مع الفلسطينيين ففي هذا تحسين “صورة إسرائيل” في العالم، مع سعيها الحثيث إلى تغيير الصراع إلى صراع ديني وهو المدخل لتحويل القضية الفلسطينية من قضية وطن محتل الى قضية صراع ديني.
لقد أثبتت أحداث الأقصى وبالملموس أن المقاومة الشعبية السلمية، المعتمدة على قوة الجموع، باتت تملك مصداقية عالية وذات أثر لا يستهان به، وأن استمرارها يولد تحولات في المزاج العام والمواقف والسياسات، وهي قادرة على إعادة تعريف نظرية “ميزان القوى”: قوة المقاومة الشعبية ضد مقارفات الاحتلال العسكرية الاستعمارية/ “الاستيطانية”. فالحراك الشعبي سار في تصاعد تدريجي متواصل، ودون انتكاسات، لأنه بقي شعبياً ولم يصادر سياسياً، وكان قد بدأ بالعشرات ووصل إلى مئات الآلاف.
كما رسخت أحداث الأقصى وحدة الشعب العربي الفلسطيني، بمن في ذلك فلسطينيو 48، في مواجهة الاحتلال. ففلسطينيو 48 أثبتوا لإسرائيل وللعالم أنهم جزء من الصراع الفلسطيني/ الإسرائيلي، في ظل ارتباطهم الوثيق بالقدس والمسجد الأقصى وفعلهم ينسجم مع حقهم في النضال الشرعي من أجل فلسطين. وفي أحداث الأقصى بالذات، نجح فلسطينيو 48، بمختلف أطيافهم السياسية، في لعب دور بارز. وكذلك الحال مع الفصائل الأساسية سواء في إطار منظمة التحرير أو خارجه.
لقد سعت إسرائيل لتحويل النظر إلى الزعامات الدينية في القدس باعتبارها بديلا عن الزعامة السياسية. هنا، علينا الانتباه، فالصراع وإن كان له أبعادا دينية، إلا أنه يظل في إطار الصراع السياسي على الحقوق. لقد تولت المرجعيات الدينية – بتشجيع من القيادات السياسية الرسمية الفلسطينية والأردنية – مسؤولية القيادة المباشرة عن المرابطة أمام المسجد الأقصى، وتصدرت المشهدين السياسي والديني في مدينة القدس، مدعومة بتأييد وثقة المصلين وحراكات شبابية مستقلة، الأمر الذي رسخ إبرازها السياسي والإعلامي والميداني فقادت الرأي العام. وكان كل ذلك بالتنسيق مع حراك شبابي مقدسي مستقل. كذلك، كان من اللافت ظهور ما تم وصفه بـ “التدين الوطني” عندما التحق آلاف الشباب غير المتدينين بالصلوات الخمس في تعبير وطني بعيداً عن التدين المتعصب. وهؤلاء الشبان هم من أثبت أن الدين يُوظف لخدمة الناس، وكأنهم يعلنون جهارة أن البعد الوطني يسبق المكون الديني. بل أكثر من ذلك تجسد هذا “التدين” مقدسياً في التحاق مسيحيين – كالعادة – بصفوف الصلاة أمام بوابات الأقصى يقفون كتفاً إلى كتف مع المسلمين. وعليه، فالمشاعر الدينية يجب أن يستفاد منها، مع الإصرار على استثمار الدين إيجابيا كقوة محرضة وإيجابية وراعية يمكن الاستفادة منه لكن على قاعدة “التدين الوطني”.
موضوع تهويد القدس ليس مفاجئا، فالاحتلال يعد له منذ زمن، وكل سياسته العدوانية تجاه القدس والمقدسيين تحمل دلالات ذلك، مع سعي حثيث لاستنساخ ما طبقه في الحرم الإبراهيمي على الأقصى وتقسيمه زمانيا ومكانيا. غير أنه، ضمن حتمية اعتماد الفلسطينيين على أنفسهم في النضال ضد الاحتلال، يبدو أن المقاومة الشعبية السلمية (الطريق الثالث)، الذي طالما دعونا له بات يصبح، حثيثا، “الطريق الأوحد”. وهو الطريق الذي خبره الفلسطينيون في الانتفاضة الأولى (1987) بعد تجاربهم في النصف الأول من القرن العشرين في ثورات 1926، 1929، 1936. وهو طريق قوامه الاعتماد على النفس، وعدم انتظار ما سيفعله الآخرون، يتبنى كل الوسائل الممكنة، بمشاركة كافة المؤسسات المجتمعية والمدنية والدينية. كل ذلك، يستلزم موقفا فلسطينيا موحدا تماما كما في الانتفاضة الفلسطينية الأولى، ومساهمة الجميع من سلطة وفصائل في تحويل الصراع على الاقصى الى عنوان لنهج جديد لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي… وعندها يمكن الحديث عن نقلة نوعية جديدة في النضال الوطني الفلسطيني.