حسين الرواشدة
فكرة “ترتيب” المجال الديني ليست جديدة، فقد دعونا مرات عديدة لضرورة مواجهة حالة الفوضى التي يتعرض لها هذا المجال دون غيره من المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تبدو مقارنة به – محكومة بضوابط تحدد حركتها – وهوية الفاعلين فيها وتحاسبهم ان اخطأوا ايضاً.
الآن، يبدو ان الفكرة قد اخذت على محمل الجد، لدينا ثلاثة مؤشرات على الأقل تؤكد ان الدولة تريد ان تمسك “بزمام” المبادرة لاستعادة حضورها في الحقل الديني، المؤشر الأول هو اختفاء جماعة الاخوان المسلمين من المشهد بعد التحولات التي جرت في الأعوام الثلاثة السابقة، حيث لم يعد – للإخوان- كجماعة دينية واجتماعية ما كان لها من حضور وفاعلية وتأثير في المجتمع، وسواء أكان ذلك لأسباب داخلية تتعلق بأداء الجماعة ذاتها او بدخول الدولة على الخط، فإن النتيجة هي “تنحي” الاخوان عن “المنصة” الدينية بعدما كانت أهم الفاعلين فيه.
المؤشر الثاني هو تراجع الدعم والتعاطف مع بعض التيارات والرموز داخل الإطار السلفي، صحيح ان هؤلاء كانوا محسوبين في الماضي على الدولة من حيث خطابهم العام الذي ابتعد عن “السياسة” لكن الصحيح أيضا هو ان المراجعات التي تزامنت مع بروز ظاهرة التطرف والإرهاب في سياقها الفكري انتهت الى بعض “التحفظات” على منهج هؤلاء في التفكير والدعوة، وليس سراً ان بعض الشباب الموقوفين في السجون بتهمة الانضمام او التعاطف مع التنظيمات الإرهابية تخرجوا في “مدارس” يديرها مشايخ من هذا التيار التقليدي.
هنا يمكن ان نلاحظ بأن الدولة تعاملت مع “الفقهاء” المحسوبين على خط “التشدد” داخل هذا التيار بمنطق “الاستيعاب” وذلك بعد ان أعلنوا عن “مواقفهم” المعارضة لداعش والنصرة، والتزموا – الى حد ما- الصمت إزاء العلميات الإرهابية التي جرت واعتقد ان ذلك جرى في إطار تفاهمات (دعك من تفاصيلها الآن) لكنها ستكون مؤقتة.
اما المؤشر الثالث فهو التغييرات التي طرأت على صعيد المواقع في المؤسسات الرسمية المعنية بالشأن الديني، فقد تم تعيين مفت عام وقاض للقضاة، ثم جرى أيضا في وزارة الأوقاف من محاولات ضبط الائمة، ثم ما أعقب ذلك من تغييرات في كليات الشريعة بالجامعات الأردنية سواء على صعيد المقبولين فيها ومعدلاتهم (تزيد عن 80% بدل من 65%)، او المواد المقرر تدريسها، وما طرح من مساقات جديدة لإعادة الاعتبار لفقه المذاهب، وهو العنوان الذي تناولته الدروس العلمية الهاشمية في رمضان هذا العام.
لا أدري، إذا كانت هذه المؤشرات الثلاثة، وربما غيرها، تكفي لإعادة حضور الدولة في المجال الديني، كما انه لا يوجد لدي أي دفاع عن مثل هذا الحضور، وفيما إذا كان مطلوباً بهذه الصورة ام لا، لكن ما اريده هو ان حماية المجال الديني الذي كان يعاني – ولا يزال- من الارتباك والفوضى وازدحام الفاعلين، هو مسؤولية الدولة، وبالتالي كان لابدّ ان تتحرك في هذا الاتجاه، بعد أن أصبح هذا المجال أحد العناوين المتهمة بإنتاج التطرف والإرهاب.
الآن، بمقدورنا ان نحكم على أداء “المؤسسات” الدينية الرسمية بعد ان أصبحت “الفاعل” الرئيس في هذا المجال، كما يمكننا ان نفكر جدياً في تطوير “إدارة” الشأن الديني بحيث يكون لدينا مجلس أعلى للعلماء او هيئات مستقلة للإشراف على الشؤون الدينية، والاهم من ذلك هو استعادة ثقة الناس بهذه المؤسسات من خلال تمكينها مادياً ومعنوياً لتقوم بدورها الديني والاجتماعي بعيدا عن الانخراط في السياسة.
تبقى ملاحظة أخيرة وهي استعادة الدولة لحضورها في المجال الديني الواسع، او قيامها “بترتيبه” يجب ان تستند الى “استراتيجية” واضحة ومقنعة، كما يجب ان تحظى بمشاركة العلماء الموثوق بهم، وان تحظى بقبول المجتمع وأن تتجنب “منطق” استبدال هذا الطرف بذاك، أو إقصائه لحساب آخر، زد على ذلك ان تحافظ على خصوصية بلدنا ومزاجه الديني المعروف بالاعتدال.
عن الدستور