حسين الرواشدة
قابلته قبل نحو ست سنوات، تماما في مثل هذا الشهر (حزيران 2011)، كان في عز شبابه، تغطي وجهه ابتسامة عريضة وفي عينيه تحد من نوع خاص يستفزك الى المواجهة.سلم ثم جلس على الكرسي، شعرت بأنني أمام جثة بقي فيها آثار حياة يكاد يشحن طاقتها بكل عزم، لكنها لم تستجب له على ما يبدو، فآثر ان يغطي كآبتها وعجزها بشيء من التحدي الذي ما زال يبرق من عينيه.
سألته عن أخباره، فصمت لحظة ثم قال لي: اعتقد بأنك ما زلت تذكر لقاءنا الأخير قبل سنوات طويلة، آنذاك كنت انتظر ولادة طفلي الاول، كنت أشعر بحاجتي الى الابوة التي حرمت منها، وقد حصل، ورزقني الله فتى جميلا، حرصت على رعايته وتربيته، وملأ فراغي الكبير باللعب والشغب، كبر شهرا بعد شهر أمام عيني، ومع كل شبر كان ثمة نذر - كما يقولون -، الى أن تم عامه الاول، وهنا بدأت المشكلة.
قلت له: إذن المشكلة في الولد الذي انتظرته كل هذه السنوات، خيرا ان شاء الله، ماذا حدث له؟
نظر اليّ بانكسار ثم اجاب: تصور أننا احتفلنا بعيد ميلاده الاول، وكان طبيعيا جدا، لم نلحظ عليه منذ ولد اي شيء غريب، لكن فجأة، ما ان جاء الليل حتى بدأ بالصراخ.. حاولنا ان نعطيه كل شيء حتى يهدأ، سألناه عما اذا كان يعاني من مغص فلم يجب.. قرأنا عليه آيات من القرآن الكريم ظناً منه أنه محسود.. لكن بلا جدوى، توجهنا به الى الطوارىء في أحد المستشفيات.. وفحصه الطبيب المقيم، ثم استدعى طبيبا مختصا بالاطفال.. والطفل ما زال يصرخ.. لم يتوقف ولو لحظة.
لم يجد أحد من الاطباء سببا لبكاء الطفل بعد ان أجروا له كل ما يلزم من فحوصات أشعة ومختبر وسواهما، فقرروا ان يعطوه ابرة تخدير لينام...
عدنا الى البيت، نام الطفل ساعتين لكن صراخه لم ينقطع، صوته فقط انخفض واصبح يشبه الانين، وما ان صحا حتى عاد يصرخ مرة اخرى.
قلت له: ربما كان يعاني من مرض ما، لماذا لم تعرضوه على اطباء آخرين؟ قال: نعم، منذ ذلك اليوم بدأت رحلتنا مع الطبابة لم نترك أحدا الا وعرضنا عليه الطفل، كلهم عجزوا عن معرفة السبب، وكلهم قالوا: بأنه لا يعاني من اي مرض... لكن الطفل لم يتوقف عن الصراخ..
تصور كيف يمكن ان تكون حياتنا.. لم نعرف طعم النوم ولا الراحة، ولم نجد الا المهدئات حلا مؤقتا لصراخ الطفل.. كل شهر نحتاج الى نوع خاص من المهدئات ثم نستبدله لنوع آخر.. الى ان جربنا كل الانواع.. ووصف لنا البعض آخر ما تم اختراعه في هذا المجال.. فجربناه..
قلت له: ان شاء الله يكون استفاد من هذه الوصفات المهدئة؟ ابتسم الرجل بمرارة وقال: يا ريت، صحيح انه اصبح ينام ساعات قليلة مع المهدئ ويتحول صراخه الى أنين، لكن ما ان يصحو حتى يعود مرة اخرى الى الصراخ..
تصور ان أهل العمارة قد ضاقوا بنا لهذا السبب، فانتقلنا الى عمارة اخرى، ثم ضاق هؤلاء، فذهبنا الى شقة اخرى... لقد رحلنا عشر مرات وأفكر الآن ان ابحث عن بيت مقطوع وبعيد لكي لا نسبب أي ازعاج للجيران.
قلت له: وماذا حصل بعد ذلك؟
قال: المشكلة الآن ليست في الصراخ فقط، ولكن في المهدئات هذه التي حذرنا الاطباء من الاستمرار فيها، لآثارها السلبية على الطفل، ولقد تبين لنا فعلا انها على وشك تدمير أعصابه والتأثير على كثير من اعضائه الهامة.
كنت استمع الى الرجل وهو يسرد قصته الغريبة، وفي ذهني اكثر من سؤال، لكنه التفت اليّ وقال: ارجوك، الآن موعد نشرة الاخبار، افتح المذياع الذي بجانبك لنسمع آخر الانباء، أدرت مفتاح الراديو وأنا ما زالت مندهشا من قصة الرجل أو كأنني نسيت البحث عن محطة تقدم الاخبار.. فصرخ في وجهي: هذه أغنية الست وليست نشرة الاخبار...
أدركت فعلا ما قاله، واعتذرت له، لكن صوت الست وهي تردد: فات الميعاد.. فات ما زال يتردد داخلي.. وكأنه بدد كل ما قاله الرجل عن الصراخ والأخبار.. وقصة المهدئات أيضاً.
عن الدستور