بقلم د. مصطفى البرغوثي*
خمسون عاما مرت منذ قام الجيش الإسرائيلي باحتلال الضفة الغربية، بما فيها القدس، وقطاع غزة والجولان.
وحوالي سبعين عاما مرت منذ هجر أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني على يد العصابات الصهيونية.
وطوال هذه الأعوام القاسية لم يرضخ الشعب الفلسطيني ولم يتنازل عن حقوقه الوطنية.
بل قاوم بكل الوسائل، وفي كل مكان، مقدما عشرات آلاف الشهداء والجرحى، وحوالي مليون أسير وأسيرة دخلوا سجون الاحتلال.
رغم القمع والتنكيل، ومصادرة الأراضي والممتلكات ، وتوغل وحش الأستيطان ، ورغم فرض اتفاقيات منقوصة ومأساوية كاتفاق أوسلو، ورغم تكرر الاجتياحات والاعتداءات الهمجية الإسرائلية في الضفة والقطاع ، بقيت قضية الشعب الفلسطيني حية، بل أصبحت قضية الضمير الإنساني الاولى في عصرنا.
ولعل أعظم مأثرة صنعها الشعب الفلسطيني أثناء وبعد ما سماه العرب " النكسة" وما سمته اسرائيل " حرب الأيام الستة"، وما سماه الفلسطينيون "عدوان حزيران"، كان ذلك الصمود البطولي للفلسطينيين على أرض وطنهم ، ورفضهم للرحيل أو التهجير ، بعد أن تعلموا من تجربة النكبة المريرة .
وكثيرون منا يذكرون تصميم آبائهم وأعمامهم وأمهاتهم في تلك الأيام السوداء ، على ان يبقوا في وطنهم حتى لو كلفهم ذلك حياتهم، فالموت كما كانوا يقولون أهون من إهانة التشريد مرة أخرى.
ذلك الصمود العفوي والاسطوري، المستند الى التجربة التاريخية المريرة، صنع في الواقع أفضل انجاز للشعب الفلسطيني في كفاحه ضد الحركة الصهيونية . اذ كانت نتيجة ضرب جوهر المشروع الصهيوني القائم على الإستيلاء على الأرض وتهجير سكانها الفلسطينيين ، ثم الإدعاء بأنها أرض بلا شعب.
واليوم فان محصلة ذلك الصمود، أن عدد الفلسطينيين على أرض فلسطين التاريخية عاد ليصبح أكبر من عدد اليهود الإسرائيليين.
ولولا هذا الصمود الانساني لنجحت اسرائيل في ضم كل الأراضي المحتلة، ولصفت القضية الفلسطينية.
وبفضل المقاومة المتنوعة منذ اول ايام الاحتلال ، والتي وصلت ذروتها في الانتفاضة الشعبية الأولى، كان الوجود الفلسطيني وجودا فاعلا ومؤثرا، وليس مجرد كم بشري سلبي.
من عاش في فلسطين كل هذه السنوات الخمسين يعرف أن كل منحى من مناحي الحياة كان موضوع مقاومة.
فالتعليم صار مقاومة، وأداء الصلاة غدى مقاومة، والوصول للعلاج اصبح مقاومة، وبناء بيت أو مدرسة أو عيادة صحية أو جامع أو كنيسة صار شكلا من أشكال المقاومة.
أجيال وراء أجيال إنخرطت في الأنشطة الكفاحية من أشدها الى أبسطها ، لكنها جمعيا كانت نضالا من أجل الحرية والكرامة والخلاص من الاحتلال والإضطهاد والتهجير القسري.
وكما ينقلب السحر على الساحر أصبح الإحتلال الجديد تذكيرا واحياءا لذكرى الاحتلال الأقدم والنكبة الأولى التي ألمت بالشعب الفلسطيني.
واليوم يواجه الشعب الفلسطيني ليس فقط آثار النكبة والإحتلال الأطول في التاريخ الحديث، بل ما صار منظومة التمييز العنصري ( الأبارتهايد) الأسوأ في تاريخ البشرية.
وقد اثبتت تجارب المفاوصات الفاشلة المريرة ، وأخطاء أوسلو المريعة وما نجم عنها من إنشغال بالصراعات على سلطة كلها تحت الاحتلال، أن لا طريق امام الفلسطينيين سوى الصمود والنضال بشرف وكرامة من أجل حريتهم.
وصار واضحا، أن الاحتلال لن يزول ، واللاجئون لن يعودوا، وأن الأسرى لن يحرروا الا بتغيير ميزان القوى، عبر المقاومة الشعبية الواسعة وتبني نهج المقاطعة الشاملة للاحتلال ، وتعزيز صمود الفلسطينيين على أرض وطنهم ، وتكامل مكوناتهم في الداخل والخارج، والعمل على إنهاء كل الانقسامات الداخلية وتحقيق الوحدة الوطنية وانشاء قيادة وطنية موحدة .
يدرك حكام اسرائيل التاثير الهائل للوجود الديموغرافي الفلسطيني سواء في القدس او الضفة الغربية والقطاع أو في أراضي 1948. ولذلك كانت مخطاطاتهم دائما موجهة لتجزئة وتقسيم الفلسطينيين وبث الفرقة صفوفهم .
بل أن التجزئة نفسها، أصبحت آلية تطبيق نظام التمييز والأبارتهايد العنصري كما اشار تقرير باحثي منظمة الإسكوا.
ولذلك تحرص حكومة اسرائيل على فصل قطاع غزة عن سائر الأراضي الفلسطينية. وتعمل جاهدة لعزل القدس عن محيطها الفلسطيني .
وجل حهدها طوال سبعين عاما كان موجها لتحويل قضية فلسطين من قضية شعب بكل مكوناته الى مشاكل مجموعات بشرية مجزأة ومنفصلة، ولم توفر فرصة الا واستغلتها لتغذية الإنقسامات الداخلية.
ولذك فإن الطريق للنصر والحرية يمر أولا عبر الإيمان الحقيقي بقدرة الشعب الفلسطيني على مقاومة الظلم وقهره ، وثانيا عبر الجهد الصادق والمخلص لتوحيد طاقات ومكونات الشعب الفلسطيني وقواه الكفاحية والسياسية والمجتمعية .
قبل خمسين عاما اجترح جيل أبائنا وأمهاتنا مأثرة الصمود على الأرض فحموا قضية فلسطين من الضياع ، فهل يجترح جيلنا اليوم مأثرة تحقيق الوحدة من أجل نيل الحرية ؟
* الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية