د. رحيل محمد غرايبة
التديّن يعني اتباع دين معيّن وهو
منسوب للبشر، فالتديّن هو فعل الانسان في الامتثال لمجموعة القيم والمثل العليا
التي يعتقد صحتها، وهو فعل مشتق من الانتساب للدين الذين يمثل مجموعة من
الاعتقادات والقيم والمثل والمبادئ التي تحكم سلوك الانسان وتعامله مع الحياة، بعد
ان تاخذ دورها في الاستقرار الوجداني والعقلي وتصبح مصدراً للثقافة ومرجعاً للخلاف
دون نكير، سواء كان ديناً سماوياً او غير سماوي.
الامتثال من قبل المتدين يكون محكوماً
بفهم الانسان وقدراته على تعقل هذه المبادئ من جهة ومحكوماً ايضاً بجهد الانسان
وما لديه من امكانات وما يملك من استطاعة، ويتفاوت الناس في درجات الامتثال، ويتفاوتون
في الاقتراب والابتعاد من النموذج المطلوب لاسباب وعوامل كثيرة وعديدة، بعضها يعود
للفرد وبعضها يعود للمجتمع والبيئة المحيطة، كما ان هناك انواعا كثيرة من التديّن
لما يغلب على صاحبها من دوافع ظاهرة وخفية وبحسب ما يرتبط فعل المتديّن به من
اهداف وغايات ومقاصد.
فهناك التديّن السطحي الذي يتمسّك
بالقشور وظواهر الامور بطريقة يبتعد فيها المتديّن عن جوهر الدين ومقاصده
الحقيقية، ويكاد يكون الدين لدى هذا الصنف عبارة عن طقوس جافة وحركات بليدة ومظاهر
فارغة من المضامين وعديمة الاثر، ويكون هذا النوع من التدين مرتبط بالجهل وعدم
الفهم وضحالة الفقه وغالباً ما يكثر ظهوره في عصور الانحطاط والتخلف التي تمر بها
الامم، ويتحول الدين لدى هذه الفئة الى نوع من التعصّب ونمط من التقليد الذي يقود
الى التطرّف احياناً والنزوع الى السلوكات العنيفة المصحوبة بالفظاظة والغلاظة
والخشونة، وهذا النوع من التدين يلحق ضررا بالغا بالمجتمع والافراد ويسيء الى
الدين اساءة بالغة .
وهناك التديّن المصلحي التجاري
الاستثماري الذي يلجا اليه صاحبه لترويج بضائعه والتلاعب بعواطف العامة واستغلال
عاطفتهم الدينية من اجل تعزيز مكاسبه المادية والتوسع في ميادين العمل الاستثماري
لديه الذي ترتبط بهذه الحالة ارتباطاً وثيقاً، ويملك المستفيد من هذه الحالة ذكاء
خاصة يجعله يتلمّس حاجات الناس من هذا المنطلق، ويملك القدرة على توظيف اتجاهات
الناس الدينية في تعظيم الربح، ويصبح تمسّكه بالدين قائماً على هذه الناحية، ويكون
دفاعه المستميت مرتبطاً بهذه القصة والخوف من فقدان .
وهناك التدين المصلحي السياسي، بمعنى
ان الدين اصبح وسيلة لدى بعضهم للوصول الى السلطة والنفوذ واستغلال عواطف الناس
الدينية لكسب تاييدهم في معارك التنافس على المكاسب السياسية ومن اجل حسم مادة
الصراع بين الفرقاء الذين يتسابقون في
ميدان السلطة بكافة اشكالها وطرقها، مما
يحول الدين لدى هذه الفئة الى سلاح من الاسلحة المستخدمة في معركة المواجهة بين الخصوم او انه يمثل احدى اوراق القوة في
معارك التنافس على الامساك بمواقع النفوذ.
وهناك التديّن الصحيح المتمثّل باخلاص
العبودية لله، وسلامة التوجّه وحسن الامتثال القائم على العلم والفهم وحسن الفقه
لجوهر هذا الدين ومبادئه وقواعده ومقاصده، وهذا الذي يقصد اصلاح الفرد وتزكية نفوس
النس في المجتمع، والارتفاع بمستوى التعامل الانساني الى مستويات التحضر الذي يليق
بمهمة الانسان الكبرى التي تهدف الى اعمار الكون واصلاح الارض ورعاية المخلوقات
وحفظ الموجودات ومواجهة الفساد والظلم والاستعباد والقهر ونشر قيم الحرية والعدالة
والمساواة في اصل الخلقة وامام قانون السماء، ويريد هؤلاء من الدين ان يكون عاملاً
من عوامل وحدة الامة وقوتها وتمتين نسيجها المجتمعي بعيداً عن التعصّب والعنف
والجهل والتخلّف.
قد يختلط الامر على الناس في امكانية
التمييز والتفرقة بين هذه الانواع وانواع اخرى لم يتم ذكرها، لكن مما يجب التوافق
عليه انه يجب ان نملك القدرة الجمعية على
تحسس مواضع الاستغلال والاستثمار الفردي والفئوي في الدين الذي يستند الى جهل الناس وتجهيلهم وتحويلهم
الى قطيع باسم الدين والتديّن المغشوش؛ الذي يتجرد عن مقاصده المشروعة ومضامينه
الصحيحة.
عن الدستور