د. رحيل محمد غرايبة
لقد وقعت حركات المقاومة والتحرير في تاريخنا العربي المعاصر في عدة أخطاء كبيرة وقاتلة، لم تنعكس عليها وحدها فقط، وإنما انعكست آثارها على الشعوب العربية كلها وعلى مستقبل الأجيال إلى أمدٍ غير محدود، وأعتقد أن الأثر الأشد خطورة ولكنه ليس منظوراً يتمثل بتشويه مفهوم الثورة ومنظومة القيم المتعلقة بها في أذهان الأطفال والشباب لسنوات قادمة وطويلة.
الخطأ الأول والأكثر أهميّة والأشد أثراً سلبياً يتمثل في استعجال الثمرة قبل أوانها، بمعنى الذهاب إلى محاولة قطف الثمار السياسية للثورة قبل إنجاز أهدافها وقبل تحقيق غاياتها التي انطلقت من أجلها، والتي تتلخص بالتحرير، فالثورة التي قامت من أجل تحرير الأرض المحتلة وطرد المحتل لا يجوز لها بأي حال من الأحوال أن تضع سلاحها قبل إنجاز هدف التحرير وطرد الاحتلال، ويجب أن تنحصر الاتصالات والمفاوضات مع الوسطاء بينها وبين العدو في كيفية انسحاب قوات الاحتلال وفي كيفية تأمين وقف إطلاق النار إذا قبل المحتلون بالانسحاب فقط، وتسليم ما بحوزتهم من أرض مسلوبة، تحت ضغط المقاومة وضرباتها الموجعة التي لا تقبل التوقف ما زال هناك جندي واحد داخل الأرض المحتلة.
أعتقد أن المقاومة الفلسطينية وقعت في هذا الخطأ القاتل، حيث أن قيادة الثورة الفلسطينية بادرت إلى حمل غصن الزيتون مقدماً، وأخذت تطالب بالحل السلمي قبل انسحاب الاحتلال، وأصبحت المفاوضات على تجريد المقاومة من سلاحها، وعليها أن تثبت أنها حركة مسالمة قبل عملية الاعتراف بها، وقبل جعلها طرفاً مقبولاً لدى الاحتلال، وعليها أن تعترف بشرعية دولة الاحتلال أولاً قبل أن يتحقق لها السلام، ووقعت في مصيدة التنازلات، وانبرى كثير من المنظرين ليحولوا هذا الوقوع المشين إلى مكسب سياسي كبير للشعب الفلسطيني، وفي الحقيقة أن ذلك شكل طعنة في خاصرة النضال الفلسطيني بل إجهاضاً لمقاومته المشروعة.
لم يقتصر هذا الخطأ على فصيل واحد، بل كانت العودة للمشاركة في أوسلو ومخرجاتها من خلال الانتخابات وتشكيل الحكومة تحت ظل الاحتلال وقبل الاستقلال التام يمثل تكراراً للخطأ القاتل نفسه، حيث كان الحرص على مسمى الحكومة الشكلية والدولة الشكلية تحت الاحتلال الذي يبسط سيطرته على الأرض والجو والبحر والمداخل والمخارج والسيادة التامة المطلقة على القرار، والذي يملك حق الاجتياح والانتشار في أي لحظة ويملك حق إعطاء الاذن لرئيس السلطة بالتحرك والانتقال ؛ ما هو إلا شكل من أشكال المخادعة للشعب المنكوب وللشعوب العربية المسكينة.
عندما تتحول الثورة إلى حكومة حكم ذاتي تحت الاحتلال فقد تخلت عن الثورة ومفهومها، لأنها سوف تكون غارقة في تحقيق متطلبات العيش للشعب المحاصر، ولن يكون بمقدورها مواصلة المقاومة أو استخدام القوة.
وهناك أخطاء كبرى أخرى رافقت الثورة تتمثل باغراق رجال الثورة بالمال وتوزيع الأعطيات والاستثمارات، وإقامة الشركات وبناء الأبراج والعمارات، وهذا يشكل مقتلاً للثورة والنضال وطعنة في خاصرة النضال والتضحيات التي تم اهدارها على مذبح التنافس على المكتسبات المادية والوهج الإعلامي وخلع الألقاب قبل الاستقلال الحقيقي التام.
نحن بحاجة إلى لحظة اعتراف بالحقيقة الموجعة، وبحاجة إلى شجاعة وجرأة في وصف مآلات الواقع المر، من أجل امكانية استئناف مشروع المقاومة والتحرير مرة أخرى وتسليم الأمانة للأجيال القادمة.
عن الرأي