بقلم: حسن
محمد الزبن
يتكرر
الحديث عن المال السياسي والمال الأسود بشكل لافت حين تقترب مواعيد الانتخابات،
سواء كانت نيابية، بلدية، أو حتى نقابية، وكثيرون يربطون بينهما، بل يعتبرونهما
وجهين لنفس العملة! ولكن، هل هما حقاً متشابهان؟ في داخل هذه السطور سنكتشف الفروق
والتداخلات بينهما.
المال السياسي وفقاً لما يراه القانونيون
والدولة، يُستخدم بشكل مشروع؛ فهو يحركه الأحزاب السياسية والأفراد أو الداعمين للمرشحين،
ليكونوا عوناً لهم في حملاتهم الانتخابية، الهيئة المستقلة للانتخابات تأخذ على
عاتقها تنظيم كيفية إنفاق هذه الأموال، وتحدد المبالغ التي يمكن أن يحصل عليها كل
ناخب بحسب الدائرة الانتخابية، إذًا، يبدو أن المال السياسي يمثّل فعلًا مشروعًا
بعين القانون، يُساعد في تعزيز العملية الانتخابية من خلال عقود مع الكوادر
البشرية والمهنيين، فضلاً عن مستلزمات الدعاية والإعلان، وهنا تبرز الحاجة إلى هذا
المال من قِبل الأحزاب والمنظمات والدولة، كأداة تحقق الوصول إلى البرلمان، إن
تأثيره يمتد ليشمل مجالات متعددة مثل التعليم، الصحة، والاقتصاد في العديد من
البلدان، مما يجعله شيئًا حيوياً ومهماً، تتصارع الشركات الكبيرة والأفراد في دعم
الأحزاب والمرشحين الذين يُعتبرون إحدى أدواتها إلى النفوذ.
التمويل السياسي يظهر بوضوح في جميع أنواع
الانتخابات، من الرئاسية إلى البرلمانية وحتى النقابية، بل إن المانحين يميلون
أحيانًا لتقديم قروض ومساعدات كوسيلة للضغط على الدول الأخرى لتبني سياسات معينة،
الدول الكبرى تستخدم المال السياسي بطرق متنوعة، منها المساعدات، ولكن غالبًا ما
يكون الهدف هو فرض قيود وسياسات تخدم مصالحها أولاً وأخيرًا.
في الأردن، يتم تصور المال السياسي على أنه تلك
الأموال التي تُخصص للتأثير في القرارات السياسية، وهذا يتضمن دعم الأحزاب، تمويل
الحملات الانتخابية، اقناع الناخبين، وأيضًا الضغط على المسؤولين لتحقيق مصالح معينة،
الأمر معقد والمشاهدات متعددة، لكن تبقى الأسئلة تدور حول الحدود الفاصلة بين
المال السياسي والتدخل غير المشروع، وكيف يمكن للمجتمع مواجهة هذه التحديات.
بالطبع، لا يمكننا أن
نتجاهل حقيقة أن الأحزاب السياسية بحاجة ماسة إلى التمويل لتفعيل نشاطاتها وتحقيق
أهدافها، ولكن، هنا يبرز سؤال مهم: إلى أي حد يبقى هذا التمويل قانونياً وشرعياً
عندما يتجاوز عتبة خزينة الدولة؟ وما هي الضمانات التي تضمن بقاء هذا المال في
إطار النزاهة بعد أن يُصبح تحت السيطرة الحزبية أو الفردية؟ عندما يتحول المال من
كونه شرعياً وقانونياً إلى سيطرة الأحزاب، فإن المشهد يتغير! يمكن أن يحدث التحويل
هذا بسلاسة ويحملنا إلى طرق وأوجه كثيرة تشوه مسار العملية الانتخابية، وفي لمح
البصر يمكن أن ينقلب إلى ما يُعرف بالمال الأسود الذي نسعى جميعاً لتجنبه؛ فالقوانين
ربما تكون صارمة في هذا السياق، ولكن الواقع يروي قصة مختلفة، نجد أن بعض الأفراد
قد يستغلون المال في شراء أصوات الناخبين، بأساليب رخيصة وأحيانًا ملتوية، مما
يعتبر اعتداءً صارخًا على الضمير العام، وعلى الرغم من أن المال له دور أساسي في
لعبة السياسة، فإنه إذا لم يتم توظيفه بشكل نزيه، يتحول إلى عائق بدلاً من أن يكون
أداة، عندما تخرج الأموال من خزينة الدولة إلى حوزة الأحزاب والأفراد، تصبح منصة
للأسرار والصفقات غير الشرعية، مما يفسد جوهر الديمقراطية وينزع منه مصداقيته،
إذًا، نحن أمام واقع مأساوي، حيث تلوح في الآفق ديمقراطية مزيفة، تُسهل للأغنياء
التحكم وفرض نفوذهم.
الانتخابات، بهذا الشكل، تتحول إلى ساحة تتطلب
ثروة طائلة، مما يعني أنّ الفائزين الحقيقيين هم من يمتلكون القدرة المالية، وليس
من يجيدون السياسة أو لديهم الكفاءة، نتيجة لذلك، نجد طوابير من الناخبين في معظم
الدوائر الانتخابية، يستسلمون لعروض الأغنياء ووكلائهم، مما يمثل تدخلاً فوضوياً
في المشهد السياسي، ويجعلنا نتساءل: أين هي الإرادة الحقيقية للشعب؟
أصبح المال السياسي
اليوم يحمل في طياته الكثير من الشكوك، ويتجلى استخدامه في أغراض غير مقبولة
اجتماعيًا، حيث غالبًا ما يُستغل كأداة تؤذي الدولة أو الأفراد، من الظواهر
السلبية التي يشتهر بها هذا النوع من المال هو شراء أصوات الناخبين خلال
الانتخابات، وهو ما يُعكر صفو نزاهة العملية الانتخابية ويزرع الشكوك في قلوب
الناس، تحاول القوانين الانتخابية وضع قيود صارمة على تقديم الهدايا أو التبرعات
النقدية أثناء الحملات الانتخابية بهدف ضمان النزاهة والشفافية، ومع ذلك، يبقى
المال الأسود ينسج خيوط الفساد، مهددًا أسس الانتخابات، ويؤثر سلبًا في نسيج
المجتمع، ما يُضعف من قيم النزاهة والكرامة الإنسانية، إنه ليس مجرد مشكلة يمكن
تجاهلها، بل يُعتبر جريمة انتخابية بحد ذاته، حيث يعمل على تغيير إرادة الناخبين
وشراء أصواتهم، مما يُفقد العملية روحها الحقيقية ويقضي على حرية الاختيار، الأمر
لا يتوقف هنا، بل يتجاوز المال ليؤثر أيضًا في استخدام المنابر الدينية والثقافية
والإعلامية لتحقيق أهدافه.
يعتقد بعض المحللين أن المال الأسود قد تراجع بفضل
الضوابط التي وضعتها قوانين الانتخابات، وأن التغيير في الدوائر الانتخابية، والتي
أصبحت دائرة واحدة باستثناء حالة أو حالتين، يجعل من الصعب على المرشحين شراء
دوائر كاملة، ومع ذلك، لا تزال الشكوك تدور حول بعض التمويلات المشبوهة التي
تتلقاها أحزاب معينة، مما يعكس واقعًا معقدًا، يمنع قانون الهيئة المستقلة
للانتخاب أي مرشح من تقديم هدايا أو تبرعات خلال الحملة الانتخابية، سواء بشكل
مباشر أو غير مباشر، كما يُحظر على أي شخص طلب ذلك من المرشحين، فالسلوك الذي
يتضمن تقديم الأموال أو الهدايا للناخبين بغرض التأثير على أصواتهم يُعتبر جريمة
انتخابية يعاقب عليها القانون، تسعى التشريعات إلى تحقيق المساواة بين المرشحين
ومنع تأثير المال أو أي عامل آخر على اختيار الناخبين، تبقى الانتخابات المقبلة في
الأردن تحديًا كبيرًا، حيث يبدو أن التنافس سيكون شديدًا بين القوى من كافة الأطياف
الحزبية، مما يزيد من إثارة هذا الحدث السياسي ويدفع الجميع إلى مراقبته عن كثب.
ضرورات المرحلة تلزم
اللجنة المستقلة للانتخابات والحكومة بأن تتعامل مع هذه المسألة بجدية تامة إذا
كانت تسعى إلى تحقيق العدالة، من الضروري الضغط على أولئك الذين يسعون للمتاجرة بالمال
الأسود، ومحاربة هذه الظاهرة بشتى السبل، والوطن في أمسِ الحاجة إلى بناء شبكات
فعالة تسعى لمكافحة ظاهرة الاتجار بالمال الأسود، ومواجهة مروجيه بشكل حازم، وفي
هذا التوقيت الانتخابي الحساس، يجب على الحكومة والجهات المعنية اتخاذ إجراءات
صارمة وواضحة لتفكيك حلَقات الفساد؛ فغالبًا ما تسير الانتخابات البرلمانية وفقًا
لنمط تقليدي تجذر، حيث يتعامل البعض مع المال المستخدم لكسب الأصوات كأنه هدية،
بدلًا من اعتباره شراءً مباشرًا لهذه الأصوات، هذه الممارسات تبث الارتباك في نفوس
العديد من المواطنين، ولذا ينبغي للجهات المعنية التدخل لتكون الانتخابات على
الطريق الصحيح رافضة الانحرافات الأخلاقية والمالية.
تكمن خطورة تزايد
موافقة المواطنين على بيع أصواتهم في أنهم قد يختارون أشخاصًا يدفعون الرشاوي
ليوجدوا في مجلس النواب، المرشحون الذين يستثمرون مبالغ طائلة في الحملات الانتخابية
سيستردون أضعاف ما أنفقوه بعمل صفقات وعقود بحكم موقعهم الجديد، والمواطن عندما يبيع صوته يفضح
واقعًا مؤلمًا؛ فعقب فوز النائب، يتجه هذا الأخير للرحيل عن مكان سكنه أو منطقة
إقامته، يختفي كالسحاب وينسى وعده بالاستماع لناخبيه من الأقرباء والأصدقاء
والجيران، أو أعضاء الحزب الذي ينتمي إليه، ربما يغير رَقَم هاتفه،
تاركًا ناخبيه في حَيْرَة، أو لنقل الندم، ولهذا نجد أن بعض الناخبين، من مختلف
الأحياء والمناطق، يفضلون قَبُول المبلغ المالي الذي يعرضه لهم النواب، خاصًا في ظل الظروف الاقتصادية
الصعبة التي يواجهونها، وفي حين أن فئة قليلة تمتنع عن التصويت، وفي هذا ما يصيب
مصداقية الانتخابات ونتائجها.
لذا فإن المال الأسود
في الأردن إذا لم تتم السيطرة على ينابيعه ومنافذه سيأخذ منحىً مقلقًا،
إذ يُستعمل لشراء أصوات الناخبين، مما يجبرهم على التصويت لمرشحين بعينهم، وهذا
المال الأسود سيجد له موطئ قدم، وذلك في ظل الأخبار التي تتوارد حول ثمن المقعد النيابي
الذي وصلت لأرقام فلكية، هذه الانتخابات تعني الكثير، فهي تظهر بداية فصل جديد من العمل النيابي في خضم الإصلاحات السياسية، وعلى
عاتق الأحزاب السياسية واجب تمثيل مصالح الجميع، بما في ذلك مصالح رجال الأعمال،
إذ إن المال عدّ عنصرًا حيويًا لدعم فرص المرشحين وإيصال أصواتهم إلى البرلمان، ومع
بدء العد التنازلي للعملية الانتخابية، تنعكس فوق كاهل الأحزاب مسؤولية توعية
الناخبين وتحفيزهم على أخذ مكانهم في الساحة الانتخابية، ومن الضروري أن تسهم
الأنشطة السابقة لهم في إحداث تأثيرات ملموسة على أرض الواقع، فالوضع القائم اليوم
على الساحة الحزبية يحتاج إلى مزيد من الواقعية، حيث إننا ما زلنا في بداية هذه
الرحلة الجديدة، هناك الكثير من الطموحات بين الأحزاب للمشاركة الفعالة في
الانتخابات والوصول إلى مجلس النواب، وهذه الطموحات تتطلب تمويلًا مشروعًا،
بعيدًا عن شبح المال الأسود، إن من يمتلك المال يملك القوة، ومهما كان قانون
الانتخابات الجديد متشددا، إلا أن أي ثغرات في القانون يمكن استثمارها لإستخدام
المال السياسي بطريقة غير محسوبة، مع أنّ جهود الحكومة في الحفاظ على مبدأ فصل السلطات وعدم تدخل السلطة
التنفيذية في الأمور الحزبية أمر محسوم.
والمراهنة هنا تبقى
على الوعي المجتمعي والرفض القوي لمثل هذه الممارسات؛ فهو سبيلنا الأقوى للتصدي
لها، مع إدراكنا بأهمية
الانتخابات البرلمانية للمجتمع والدولة، فهذه الانتخابات تؤثر بشكل مباشر على
الحياة السياسية والاقتصادية ورسم المستقبل.
إن شراء الأصوات
والمال في السياسة يشكل خطرًا على الحياة السياسية ويجب مكافحته بجدية لأنه لا
يمكن بناء الدولة بهذه الطريقة، ويجب كبح جماح ثقافة الفساد الذي تنتشر وتتغلغل في
المجتمع، وبعض المواطنين يشاركون في هذه الجريمة بقبولهم مبدأ بيع أصواتهم، وينبغي
أن يعاقب على هذه السلوكيات بعقوبات رادعة، لأن هذه الثقافة أصبحت مترسخة تحت رقابة القانون
والحكومة، وهذا يتطلب إصلاحات شاملة بالتوازي مع رسم السياسات العامة التي ترتقي
بالدولة، لتكون نقطة تحول في طريقة إدارة البلاد وتشكيل الحكومات البرلمانية في
المستقبل، لأن الفساد نظام طويل الأمد وعميق الجذور، ولا بد من اتخاذ قرارات تشارك
فيها كافة الأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، يتضمن الاعتراف بالأخطاء
السابقة والدخول في مرحلة جديدة، لبناء دولة عصرية حديثة تنبذ الفساد والفاسدين
وتعزز الانتماء الوطني التي يتجاوز
المصالح الشخصية وينظر بأفق أعلى للمصلحة الوطنية الأردنية بحس من المسؤولية والحب
للوطن.
حمى الله الأردن،