احمد حسن الزعبي
كانت غرفتها تطل على الخان الطيني المقابل ، يفصلهما حوش ضيق لكنه يفي بالغرض ، يلاصق الخان حاصل صغير للتبن والذرة والكرسنة له باب أزرق وبرواز مائل ، وقت الضحى كانت تقف الحجة «فضية» تنظر من نافذتها لتطمئن بان كل شيء على ما يرام ثم تعود للتسبيح ثانية...
للحجة فضية طريقة فريدة في حلب بقراتها ، عندما تدخل الحوش تقول للبقرات: «يصبّحكن بالخير» تربت على ظهورهن بمحبة ، تضع كرسيها الصغير تحت الضرع مباشرة، تغسله بالماء جيداً وهي تسمّي عليه وتنشفه بخرقة كما تنشف أصابع طفلها الصغير ، تقرّب إناء الألمنيوم تحت البقرة تماماً وتبدأ بالحلب الحنون ، كانت البقرات البلديات تستسلم تماماً ليد الحجة وتضع الطاعة التامة لعملية الحلب ..بعد أن تنقل إناءها من واحدة إلى أخرى تفعل نفس الشيء دون تمييز، تربت على ظهر البقرة تسمّي عليها وتبدأ بالحلب..وبعد أن تنهي منها تقبّل كل واحدة بين عينيها الواسعتين وتشكرها بتمتمة مليئة بالامتنان: «يخلف عليكِ»، كانت تؤمن أن هذا الحنان يزيد من إنتاج الحليب ويطيل عمر البقرة ويديم الود بينها وبين صاحبها..كانت تحرص رحمها الله قبل أن تنقل الحليب إلى الغرفة الوسطى ، أن تنثر التبن على الأرض وترشّ الذرة الصفراء في المعالف وهي ترددّ :»شحم شحم..ريته الف صحة وعافية» فتعوّض الحلوبات حليبهن بالأكل والتسمين طوال اليوم وبالتالي الإدرار بشكل منتظم واكبر.. للعلم كانت ترفض الحجة فضية أن تحلب صويحباتها أكثر من مرة باليوم كانت تخشى على «الدرّة» أن تلتهب فتتركها على دلالها دون أن تبخل في رعايتها أو احترامها أو محبتها..
لكن الحجة فضية ماتت.. ومجرد أن انتهى العزاء ، قرر الأولاد هدم الخان ونقل البقرات إلى مزرعة بعيدة خارج القرية ، هناك لم يعد يشعرن بالألفة قط ،كل شهر كانوا يغيّرون العامل الذي يقوم على خدمتهن، ولأنه مكلف بالمهة ومعيّن بالأجرة فلم تعنيه المعاملة الحسنة ، فقد استبدل الركل بالربت على الظهر ، والصفعة بالقبلة ، واستبدل الحلب الأوتوماتيكي بالحلب اليدوي ..كان يضع الجهاز في «الضرع» وينساه فينضب الحليب وتتألم البقرة وبعد أن يعود إليها بعد ساعتين..يراها منهكة وقد تلوّن الحليب بالدم..يركلها ويضربها ثم يضع الجهاز من جديد...
بأمر الأولاد ، صارت تُحلب بقراتهم خمس مرات باليوم ويطعمونهن مرة كل خمسة أيام ، هزلت أجسادهن ونحلت ،وصار «بكم المزرعة» ينقل الحلوبات الراحلات أسبوعيا ليقذف إحداهن في الوادي البعيد..كلما رحلت بقرة غيروا العامل ...حتى نفقت الحلاّبات تماماً،و لاحقت الديون المزرعة وهرب الأولاد كل في مدينة..
الحكمة الزراعية السياسية في الموضوع : من الممارسات التي قد تؤذي الحلوب أن يتم حلبها بشكل أكثر من اللازم فيتم نضوب اللبن من الضرع..لأن كثرة الحلب ،تؤدي إلى التهاب «الضرع» وبالتالي هزل وموت رأس المال..فحذار!!.
عن الرأي