حسين الرواشدة
حصاد الشهر الماضي الذي انصرف من هذه السنة الجديدة كان كافياً لرؤية ما طرأ على صورة مجتمعنا من تحولات، لم تكن هذه التحولات بالطبع صادمة ولا مفاجئة، ولكنها – على الأقل- كانت كاشفة لتراكمات لم يكن لدينا رغبة في رؤيتها، او الاعتراف بها، ناهيك عن استباقها بمواجهات عاقلة.
قبل ان ارصد بعض هذه التحولات ارجو ان اسجل ملاحظتين، الأولى هي ان ما تعرض له مجتمعنا من ضغوطات داخلية وخارجية، وخاصة على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي، أفرز منه أفضل ما فيه واسوأ ما فيه ايضاً، وهي نتيجة طبيعية لردود أفعال الناس حين يتصرفون على تلقائيتهم، وفي غياب المرجعيات التي يفترض ان تمتلك الرؤيا والبوصلة لكي توجه وترشد وتضبط، أما الملاحظة الثانية فهي ان مجتمعنا الذي تصورنا في لحظة “يأس” انه استسلم لقدره وصمت، قرر ان يتحرك ويواجه الحقائق التي داهمته، ربما تكون هذه الحركة احياناً غير مدروسة وربما تعكس من الانفعالات اكثر ما تعكس من الأفعال الجادة، لكنها في النهاية تشير بكل وضوح الى انطباع عام وهو ان لدى هذا المجتمع رغبة في استعادة عافيته وتجاوز حالة الشكوى والندب التي تعود عليها فيما مضى الى حالة جديدة عنوانها الاعتماد على النفس والتعبير بصراحة عن الذات والاشتباك مع الواقع.
لدي ملاحظة ثالثة أيضا وهي ان الفاعل الأساس الذي ساهم في تحريك عجلة المجتمع كان هو “الاعلام” خاصة وسائل التواصل الاجتماعي، فقد تحول الى منصة لكشف المجال العام امام الناس، وفيما كنا نشكو مما فعله بنا في الماضي على صعيد الاشاعات والكراهية وتغذية الانقسامات تحول الى وسيلة للتضامن والتحشيد وهذه خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها –للأسف- لم تعتمد على أسس او مواثيق تضمن استمراريتها، مما قد يضعها في دائرة “الفزعة” المؤقتة.
اهم التحولات التي عكست صورة مجتمعنا كانت حملة “المقاطعة” التي اطلقها بعض الشباب على وسائل التواصل الاجتماعي ضد ارتفاع أسعار مادتي البطاطا والبيض ثم ضد الاتصالات بعد تلويح الحكومة بفرض ضريبة على أجهزة الخلوي، صحيح ان هذه الحملة بدأت بعفوية وشابها بعض التصرفات غير المفهومة التي تجاوزت حدود “القانون” لكن الصحيح أيضا انها أسست لثقافة جديدة في المجتمع، تتناقض تماما مع ثقافة الاستهلاك واللامبالاة، ونحن احوج ما نكون لمثل هذه الثقافة التي تعكس حيوية المجتمع وقدرته على تصحيح المسارات الخاطئة التي تواجهه بنفسه، بالأفعال لا بمجرد الشكوى، وبالوسائل السلمية العاقلة لا بالاحتجاجات السلبية التي جربناها ولم تحقق المطلوب.
حملة “ المقاطعة “يمكن لاحقاً ان تتطور بشكل منظم أكثر، كما يمكن ان تفرز افكاراً جديدة تحتاج الى “مأسسة”، فنشهد مثلا حركة لمواطنين ضد الغلاء، او أخرى ضد الاحتكار، او ثالثة ضد الفساد...وهكذا، مما يعزز دور المجتمع في الرقابة والتأثير، ويعيد اليه وزنه الاعتباري عند اتخاذ أي قرار يتعلق به او يؤثر عليه.
التحول الاخر المهم هو الذي عكسه الاستطلاع الذي اجراه مركز الدراسات الاستراتيجية ويتعلق بعنوان أساسي وهو (جرأة ) المجتمع على التعبير عن نفسه، بما يعني انه خرج من دائرة “الخوف” التي كانت تشكل عقدة تمنعه من انتقاد القرارات الرسمية ( في معظم استطلاعات الرأي اعترف اغلبية تصل الى 70% من المستطلعين انهم يخافون من انتقاد الحكومات علناً)، المهم ما اسفرت عنه هذه الجرأة من “أرقام” تضمنها الاستطلاع، ابرزها ن نحو 54% أفادوا ان الأمور لا تسير في الاتجاه الصحيح، كما ان ثقة نحو 60% منهم بالحكومة تراجعت، المفارقة هنا كانت في الهوة الشاسعة بين اراء المحسوبين على النخبة وبين اراء الناس من العينة الوطنية، خاصة فيما يتعلق بقضايا مثل البطالة ورفع الأسعار والفقر، فبينما رأى مثلاُ 20% من العينة الوطنية ان ارتفاع الأسعار اهم مشكلة تواجه الأردنيين اعتبر 1% فقط من قادة الرأي ذلك وكذلك اعتبر 8% و 9% من عينية قادة الرأي ان البطالة والفقر على التوالي اهم المشكلات بالمقابل 20% و 18% على التوالي من العينة الشعبية وهذا لا يعني فقط انفصام النخب عن أحوال الناس وانما قدرة المجتمع على توصيف مشكلاته وتحديدها ووصفها امام صانع القرار، الامر الذي يعكس أيضاً ما يتمتع به المجتمع من حيوية ووعي واستبصار.
صحيح ان بلدنا يواجه حزمة من الضغوطات والاخطار، لكن الصحيح ايضاً ان مثل هذه المشكلات والأزمات تفرز أحياناً من مجتمعنا أفضل ما فيه وبالتالي يمكن الاستثمار فيه كعنصر قوة وكورقة إضافية لسلامة بلدنا، بعكس ما يعتقد الاخرون الذي تفزعهم حركة المجتمع وحيوته ويصرون على ان يبقى جثة صامته.
عن الدستور