منذ اكتشاف رأس الرجاء الصالح عام
1488م على يد فاسكودي جاما لم تنعم أفريقيا بالاستقرار، فهي تلقت دوماً أسوأ ما في
أخلاق الأمم الأخرى، فمنذ اكتشافها وهي أسيرة العبودية والاستعمار والفقر
والامتهان، ولم يتغير ذلك كثيراً بعد تحررها من الاستعمار فقد بقيت تخضع للهيمنة
الجيوسياسية والثقافية واللغوية والاقتصادية لفرنسا وغيرها من الدول، فكانت
ثرواتها وموقعها بمثابة الحظ العاثر الذي يصيب بعض الأمم بلعنته، فهي عندما أفاقت
من الاستعمار فتحت باب الصراعات العرقية والقبلية.
بينما تحوي القارة السمراء 70 ٪ من
الفسفور العالمي و86 ٪ من اليورانيوم و60 ٪ من ذهب العالم، ومساحة من الصحراء
يمكنها أن تضيء العالم بالطاقة الشمسية و65 ٪ من الأرض الصالحة للزراعة عدا عن كل
العناصر الكيماوية النادرة واللازمة لاستمرار التطور التقني العالمي، مع ذلك ما
تزال أسماك البحر المتوسط المفترسة تنتظر جثث الغارقين الأفارقة على طريق الهجرة
الى الغرب بحثاً عن أمل في الحياة بينما تمتلك بلادهم كل ما ذُكر، ورغم تقاطر
وتسابق زعماء الدول العظمى عليها بحثاً عن المكاسب في نفس الوقت الذي تمنع قوات
خفر سواحلهم آلاف اللاجئين من الدخول، إنها مفارقة عجيبة لا تجدها إلا بين أفريقيا
السمراء ومغتصبي ثرواتها، لقد ظهر جلياً خلال السنوات الأخيرة حجم ذلك الصراع
وشراسته، ففي البدء كان نصف القارة فرنسياً وأوروبياً ومع موجات الإرهاب دخلت
أميركا بقواعد عسكرية ومساعدات شبه إنسانية، ومع تطور الصين وصعودها الاقتصادي
انضمت الى الركب وأخيراً ها هي روسيا تظهر بقوة ولكن بشكل عاصف.
طبعاً لم تكن أفريقيا ومصلحتها هي
الهدف، بل المكاسب هي من جعل كل هؤلاء يتسابقون نحو القارة السمراء، ونكتشف ذلك من
تكدس قواعدهم العسكرية في دول القرن الأفريقي جيبوتي وإريتريا والصومال وأثيوبيا
فهناك 12 قاعدة عسكرية في هذا القرن وحده، فالهدف بالنسبة للصين هو اقتصادي
مرحلياً بينما روسيا هو جيوسياسي أمني ومعدني، وهو أمني وطاقوي بالنسبة لأميركا،
إذ تعتبر منطقة الساحل الأفريقي وخليج غينيا (غرب أفريقيا) جزءا من البدائل التي
يتم إعدادها في قطاع الطاقة أضيف إليها المخاوف من التوسع المتسارع للصين في
القارة، والتي تمكنت من ذلك بسبب جسارتها من التقدم سريعاً هناك، وهي بذلك تحولت
إلى مصدر للقلق الغربي والأميركي، أما روسيا فكانت قناعة أميركا أن إمكاناتها
الاقتصادية لا تسمح لها بالوجود المؤثر بشكلٍ كبير وأنها أقل من أن تزعزع النفوذ الغربي.
لكن كل ذلك تغير منذ ثمانية عشر شهرا
مع تكون حزام الانقلابات الذي ضم دول غرب ووسط أفريقيا وهي مالي وتشاد وغينيا
وبوركينا فاسو وبيساو والسودان، والتي أدت إلى خلع الحزام الفرنسي أو كادت، وها هو
الدور يأتي على النيجر والتي كانت قبل أسبوع حجر الزاوية في إستراتيجية البنتاجون
الإقليمية يتمركز فيها ما لا يقل عن 1100 جندي أميركي، إذاً ها هي النار وصلت إلى
الهشيم الأميركي، ولم يعد الأمر يحتمل السكوت أميركياً ولا فرنسياً وربما صينياً،
ها هي روسيا تقلب طاولة أفريقيا على رؤوس الجميع، وعلى ما يبدو أنها تنتظر تطوراً
سيئاً في الحرب الأوكرانية، لذلك تستعد جيوسياسياً لوضع الجميع في مأزق طالما أن
فاغنر جاهزة للعمل وطالما الذاكرة الاستعمارية والعبودية تخدش أعماق الأفارقة
وتدفعهم إليها، ويمكن أن يطال الأمر حلفاء الصين فأزمة الديون وطريق الحرير قابلة
للنسف طالما أن الصين تصر على البقاء نصف حليف لروسيا.
إذاً ها هي روسيا تعيد من جديد شبح الانقلابات
العسكرية وتجعلها ترفع رأسها القبيح في مواجهة طموحات القارة والآخرين وهي التي
حلمت بأنها ستكون قارة القرن الواحد والعشرين، لكن يبدو أن لروسيا رأياً آخر فهي
تبدد كل ذلك وتعيد بعثرة الأوراق في وجه الجميع.