تُعرّف الهمة بأنها ما هُمّ به من أمرٍ ليُفعل،
كما قد تعني استصغار ما هو أقل من معالي الأمور، وهي الباعث على الفعل، وتتفاوت بين
علوٍ وسفول، فعلو الهمة عنوان الفلاح، وسفولها عنوان الحرمان، فيقال عن صاحب العزم
أنه ذو همة عالية، كما يوصف الضعيف الذي يرضى بما تيسر بأنه قليل الهمة، وقد قيل
قديما أن العامة لها ما سعت، بينما الخاصة لها ما طلبت.
في شهر رمضان تكون همة الفرد المسلم -على الدوام- في أعلى الدرجات، حيث
يتعلق الفرد بخالقه، ويسعى للعمل لآخرته، مقدما إياها على سفاسف الدنيا ودناءة
أغراضها وغاياتها، فتسمو غاية الهمة عندما تتعلق برضا رب العالمين، وما أعده من
جنةٍ للمتقين، وهكذا تكون الهمة بقدر مرادها.
أمّا عن همة الأمة في شهر رمضان فيكفي أن
نعرف أن أهم إنجازاتها وفتوحاتها كانت في هذا الشهر الكريم، ولم يأت ذلك مصادفة،
بقدر ما كان الشهر حافزا لهم ومحركا لعزيمتهم، لما يستشعرونه من روحانية وتأمل،
ففيه وقعت أكبر انتصارات الأمة ابتداءً من غزوة بدر شهر رمضان (2هـ)، وفتح مكة
المكرمة شهر رمضان (8هـ) ، ومرورا بمعركة القادسية شهر رمضان (15هـ) في عهد
الإسلام الأول، كما فتحت الاندلس في شهر رمضان (92هـ)، ولا ننسى معركة بلاط
الشهداء في فرنسا رمضان (114هـ)، ومعركة عمورية في تركيا رمضان (223هـ)، وانتصر
المسلمون في حطين بقيادة صلاح الدين في رمضان (584هـ)، كما أوقف المماليك وحشية التتار
في عين جالوت رمضان (685هـ)، وهناك -اليوم- من ينفث علينا حقده مشككا في صدق همة وإخلاص
الفاتحين، أمّا في عصرنا الحديث فكانت حرب رمضان (1392هـ) التي أبرزت همة الأمة
ووحدتها، فحققت انتصار.
في هذا الشهر يشمر المسلم عن ساعديه مستقبلا الشهر بما له من فضل أقره الله
ورسوله، فيصوم الشهر، ويقوم الليل، ويصلي التراويح، ويحضر دروس الذكر، ويتلو
القرآن الكريم، ويُخرج الصدقات، ويراعي الفقراء والمحتاجين، وفي هذا يسعى لمرضاة
ربه، وطلبا لجنته، تاركا السفاسف وصغائر الأمور وكل عرض الدنيا الزائل وراء ظهره.
تقول الحكمة من طلب الراحة، ترك الراحة، والإنسان لن يصدف الراحة أو
السعادة في دنياه، لذا فأولى به أن يعقد هوى قلبه بخالقه، وأن يرغم نفسه على
مكابدة الصعاب في سبيل الغايات الأسمى، فمن كان ذا همة عالية طلب الأعلى والأغلى، وعلى
قدر أهل العزم تأتي العزائم.
أمّا علو همة الفرد فلا تحقق مرادها دون أن يمتلك الإنسان شرطها؛ العلم
المدعوم بالعمل، فباجتماع هاتين القوتين تذهب الهمة إلى غاياتها الكبرى، متجاوزة الموانع
والرغائب، ولن تستطع القوى المعاكسة أن تشدها إلى أسفل، لأن النفس تسمو دائما إلى أساسها
العلوي.
من علت همته حاز كل الفضائل، وسما عن النقص، وإن كثرت في طريقه العقبات أو
الشهوات، فتأبى نفسه إلاّ علوا، مثله كالشعلة؛ يصوبها صاحبها لكنها تأبى إلاّ
ارتفاعا، فالهمة مِحلها القلب، ولا خضوع للقلب إلاّ لصاحبه، وهي تلحق بالنية
الصادقة، وطهارة القلب، وقوة اليقين، وشدة الإخلاص، ومتى اجتمعت الأربعة لن يُعوق
همته تعب الابدان، أو اجتمع عليه من حوله، رُفعت الأقلام وجفت الصحف.
وصدق الشاعر عندما قال:
وإذا النفوس كن كبارا تعبت في مرادها الأجسام
ومن الناس من يكون همه وهمته التمتع بعرض الدنيا،
كمطعم شهي، وملبس دفي، ومركب وطي، أو امرأة يصيبها، فهان الطالب والمطلوب.
أي أن ضعيف الهمة يرضى بما يفرضه واقعه، ويميل إلى الراحة، ويزجر النفس عن
طلب المعالي، ويركن إلى العجز والكسل، يقع فيما وصف الشاعر:
ومن يتهيب صعود الجبال يعيش أبد الدهر بين الحفر
وليس أصدق في هذا المقام من قسم الله سبحانه وتعالى في سورة العصر عندما
أقسم بالزمن بأن الإنسان في خسر لكنه استثنى ذوي الايمان المقرون بالعمل الصالح
المحفوف بالصبر والملتزم بالحق.
الدوحة - قطر