في الوقت الذي تواجه فيه الأمة
الإسلامية القضايا الشائكة؛ الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والتربوية، المتقادم
منها والمستحدث، وما تقوم به من اجتهاد للمحافظة على وحدة أوطانها وقيمها وثقافتها
وحضارتها بشقيها المادي والمعنوي، يُصر نفرٌ من أبناء الأمة على نبش تربة الماضي
بما تحتويه من بذور الفتنة والخلاف، ليزرعوا فيها الألغام والمفخخات، وليؤججوا التسعير
في الأمة، حتى لا يتسنى لها التصدي لقضاياها المصيرية، وليجرنا هولاء إلى ماضٍ تولى،
لا يمكن الرجوع إليه أو الخروج منه، وليرفعوا
بيننا حاجزا مظلما يفصل حاضرنا عن مستقبلنا، بما هو أشد وقعا مما يفرّقنا عن بعضنا
البعض في هذا الزمان.
ما يقوم به المفرّقة في قنواتهم أو وسائل التواصل الاجتماعي الذين يتبنون
خطاب الطائفية، أو يدّعون الدفاع عن المذاهب من خلال بث السموم في حياة الناس، ربما
يتصور أن العامة في بلادنا مهمومون ومنشغلون بجمع وقود الفتنة ليلقي هولاء المتفيهقون
بالشعلة.
واقعا عندما نكون في أي بلد عربي أو مسلم أو حتى بين الجاليات المسلمة في
الغرب، نجد أن الناس يختلطون وينصهرون ويبيعون ويشترون، بل ويتصاهرون دون أن يأبهوا
بخلافٍ يتوهمه دعاة الفتنة، الذين استمرأوا بث الحقد والكراهية في الحياة، بأساليب
السب والشتم واللعن والطعن والقذف وإيقاظ الفتنة بين البسطاء من الناس، بما يدفعهم
إلى المواجهة إذا ما ألغوا عقولهم.
بتنا اليوم نشاهد موتورين يخوضون بروايات الماضي البعيد الدينية
والتاريخية، لا ليحققوا ويبحثوا عن الضآلة أو العبرة بما يفيدنا في حاضرنا، بل إن هولاء
يسعون لتفجير السلم الأهلي والتعايش بين الناس، وعندما تبحث في غايات هولاء، نجد أنها
هزيلة بحجمهم، حيث أن ما يسعون إليه هو الشهرة، وجني المال بخدعة التبرعات، وزيادة
عدد المتابعين والمشاهدات من خلال التلاعب بمشاعر البسطاء، إذ أن رعاة الفتنة يدّعون
أنهم بهذا المال يعيدون الحقوق التاريخية إلى أصحابها، فهؤلاء لا يثقون بعدالة
الله في إحقاق الحق بين خلقه ممن وقع الخلاف بينهم فيما مضى، لكنهم سيبعثون من صار
إلى جنةٍ أو نار ليحاسبوهم من جديد.
لم يعد غريبا أو مدهشا أن تجد بعض المتشددين يظهر على الناس يدعو للخروج إلى
الشارع لمواجهة الأخر، والاعتداء على تراثه، وسب رموزه، دون أن يرعوا في أمتهم إلّاً
ولا ذمة فيما قد تجره دعوتهم المطروحة بلغة الشارع من سوء العاقبة، وبطبيعة الحال
لن يصيب هولاء شيئا من لهب الفتنة، لأن أكثرهم هاربون من بلادهم، ويعيشون بعيدا مختبئين
في بلاد الغرب، ويحتمون بقوانينه، ويبثون سمومهم من الغرف المظلمة، ، أمّا شجاعتهم
فتتمثل في أنهم يغلقون الاتصال في وجه مخالفيهم، وما عليهم أن تشب النار بين الناس،
وتحرق الأوطان دون مخافة الله.
يحتفي المتزمتون بمن ينتقل من مذهب إلى غيره بالتهليل والتكبير، وتلقين
الشهادات المبتدعة، ليظهر كل حزب فرح الصبية، وليحصي عدد المتحولين إلى مذهبه فهذا
مهتدٍ ترك الإسلام المزيف!، وذاك مستبصر تمذهب ودخل في الإسلام الحقيقي!، فكلاهما
لم يكن على الإسلام، والواقع أن كلاهما انتقل من سعة الدين إلى ضيق المذهبية، فكل طرف
يُكفّر الأخر دون أن يرف له جفن، ففي أمة تشكل ما يقرب من ربع سكان العالم تنتصر
على نفسها بتكفير بعضها البعض، وبإحصاء المتحولين من المهتدين والمستبصرين.
ما يشجع هؤلاء أنهم أصبحوا يجدون منبرا سهلا من خلال وسائل التواصل الأكثر
شيوعا بين الناس، ثم أنهم -غالبا- ما يعيش أكثرهم خارج أقطارهم فلا تطالهم محاسبة -خاصة
أن جمهور الغرب لا يتأثر بطرحهم- والأخطر من ذلك أن المرجعيات الدينية على
الجانبين تصمت بقصد أو عن ضعف، ليغيب صوت العقل والحكمة، ويستعر صوت المغالاة.
هذه الفئة المتشددة لا يُعتد بحججها أو حجمها، بقدر ما تؤذي الناس بعلو
صوتها، تستفيد من إذكاء نار الفتنة الطائفية، بخلطة التاريخي والديني، لتدخل
السياسات الخبيثة على الخط، فتستفيد من هذا الخلط بتهييج الناس على بعضهم البعض،
ليحصد الساسة ثمرة ذلك توقيرا وتبجيلا، وليحافظوا على استقرار مكانتهم أو حكمهم المبني
على الانحيازيات الجهوية والطائفية والدينية والقبلية، وعند الصحوة يتبين لهم أنهم
كانوا يبنون ثروات وأمجاد شخصية على حساب أوطانهم، سرعان ما تنجلي عن وهم.
الدوحة - قطر