منذ نشأة الدولة الأردنية لم تقتصر
معادلات بناء سياستها الداخلية على حراك نخبها وجماعاتها الداخلية الضاغطة بل
تعدها إلى تداخلات معقدة بين الإقليمي والدولي، فكانت حصيلة ذلك التداخل حالة من
التكيف المعقدة والتي لا يمكن في كثير من الأحيان قياسها بشكل دقيق لأنها تخضع
لتقلبات تلك العناصر، فمنذ لحظة النشوء وحتى الآن تعرضت الدولة ونخبها الحاكمة
والمعارضة لمزاج المنطقة شديد التقلب وأثرت وتأثرت به، ابتداء من مرحلة الاستعمار
البريطاني وحتى الآن.
أنتجت تلك المراحل التاريخية معارضات
مختلفة عَلى عدة مستويات، ارتبط بعضها بمشاريع أيديولوجية عابرة للجغرافيا
الأردنية، وهذه كانت ترفض النظام السياسي الأردني برمته وتعتبر أنه نتاج المؤامرات
الدولية على المنطقة وهي لم تعترف بشرعيته أبداً وكانت في أغلبها ذات طبيعة شمولية
وهذه تراجعت مع تراجع أو زوال الأنظمة السياسية الداعمة لها، فبقي في البلد نوعان
من المعارضة: الأولى وهي المعارضة الحزبية النظامية والتي انقسمت إلى نوعين؛
أحداها هو المعارضة الرسمية والمكونة من أحزاب المعارضة الشرعية والتي تشمل بعضا
من تلك الأحزاب لأيديولوجية بعد أن قامت بتعديل خطابها ليوائم واقع البلد، يضاف
إليها النقابات ومنظمات المجتمع المدني الأخرى. والمعارضة الأخرى هي المعارضة
البديلة والتي تبنت خيار ملء الفراغ السياسي وهي ذات طابع انعزالي، وهذه المعارضات
لم تستطع أن تتبنى مشروعاً وطنياً موحداً قادرا على مواجهة التغول الحكومي على
الشأن العام بكل مستوياته.
ومؤخراً بدأ يظهر النوع الثاني من
المعارضة، وهم مجموعة من الشخصيات السياسية والتي تبوأت مكانة قيادية عالية
المستوى مثل رؤساء وزارات سابقين ووزراء ومدراء دوائر مهمة، حيث بدأوا بالانخراط
في الحياة العامة من خلال الندوات والملتقيات، والملفت أنهم تبنوا خطاباً ناقداً
للسلوك السياسي للدولة ورفضوا دوماً الحالة وصلت إليها البلد ورغم ذلك فقد تجنبوا
ذكر الزمان والمكان وأسماء الأشخاص الذين أوصلونا إلى هذا الحال، فكل أقوالهم
تُبنى للمجهول، فلم يحددوا لنا من هو المسؤول عن هذا التراجع الاقتصادي الذي وصلنا
إليه ولم يذكر لنا أي منهم موقفاً محدداً تعرض له يشير إلى موقع الخلل، ولم نعرف
أبداً أي حالة فساد بالاسم أو من المسؤول عنها، فتراجع مستوى التعليم والصحة يقف
حائراً عند عتبات المجهول ولم تُرصد أبداً الجهة المسؤولة عنه وهكذا دواليك، ولا
أحد يستطيع التنبؤ بالسرّ وراء الصعود والخفوت المفاجئ لهذه الانتقادات فهي لم
تتعد النقد إذ لم تتبلور في خطاب موحد يضم هذا الطيف السياسي المهم وبالتالي بقي
أثرها محدوداً ولم يتعد حدود المشاغبات على الدولة بين الحين والآخر.
هذه العملية أفسدت الحياة السياسية
وقيدتها بالأهواء الشخصية ومزاج قائليها لا بالصالح العام، ولأنهم كانوا جزءا من
صناعة القرارات التي أوصلتنا إلى هذا الحال بكل تداعياته فقراراتهم هي التي أدت
إلى احتكار الفضاء العام لصالح مجموعة مقننة اعتقدوا أنهم الأخيار وحرموا بالتالي
بقية أفراد المجتمع من أن يكونوا شركاء في صناعة القرار والذي بقي أسيراً لنخب
معقمة ترى الدولة ومؤسساتها حكراً عليها لذلك لا يبدو أنهم وصلوا إلى قناعة بضرورة
تغيير هذا الواقع رغم كل انتقاداتهم، لذلك سوف يستمرون بنسب الأفعال الشائنة
للمجهول والذي لن يتم تحديده أبداً كي يضيع دم الحقيقة بين القبائل، وبسبب نزق هذه
النخبة المستجدة على المعارضة فإن أجهزة الدولة ووزاراتها تشعر بالاسترخاء طالما
أنها تُواجه بجزر من المعارضات المشتة والتي لكل منها مصالحه المعزولة والتي يسهُل
على أي صانع قرار وسياسي أن يحتويها، لذلك لا يمكن أن نصل إلى تفكيك الماضي
وأخطائه التي اوصلتنا إلى هذا الحال إلا بالإشارة الواضحة والصريحة ليس إلى تلك
الجرائم بل إلى مقترفيها بأسمائهم وزمان ارتكابها ومحاسبتهم على كل ما اقترفوه بحق
الناس والبلد، أما الاستمرار بنسبتها إلى المجهول فهي جريمة بحد ذاتها.